العبد لله ربما يكون أحد أكثر المصريين انتقاداً وتعليقاً وهجوماً على شخص وفكر ومواقف محمد البرادعي منذ 12 فبراير 2011 حتى تاريخه (أستثني من ذلك أحمد سمير وإبراهيم الجارحي) وهو أمر أثار استغراب واستهجان كثير من أصدقائي وأحبائي ممن يقدسون الرجل أو حتى ممن يعارضونه فظنوا بي الظنون حيث كان وما زال رأي هؤلاء أن مواقفي منه مبنية على كراهية شخصية غير موضوعية (ربما عززها الأسلوب الهجومي في انتقاده) وأنني أتجنى على الرجل أكثر مما ينبغي. وفيما يلي محاولة لتجميع أفكاري حول الرجل وقيمته وتحليلي لمواقفه وأسباب هجومي عليه لعلي أبرئ ذمتي أمام الله وأمام الناس من أن أكون كارها للرجل حقداً أو غبناً.
هذا ، وعلى الله قصد السبيل،
اجتماع تأسيسي للجمعية الوطنية للتغيير
وجدير هنا أن أذكر أنني وعلى مدى قرابة عام كنت أحد أكثر من حرصوا على متابعة لقاءات وحوارات الرجل الإعلامية وتصريحاته و"تويتاته" المختلفه ربما أكثر كثيراً من غالبية البرادعاوية المخلصين وذلك لرغبة مني واهتمام صادقين بما لدى الرجل ليقدمه من رؤية. وكان من أكثر ما يستفزني في ما يخص الرجل وما يزال هو تبني مؤيديه لكل ما يرفع قدر الرجل ونشره بصفته خبراً مؤكداً وإن لم يكن صحيحاً دون تثبت أو تحقق من المصادر الأصلية للأخبار وهو مسلك لا يقل سفاهة عن مسالك معارضيه ممن يفعلون المثل بما يحط من قدره دون تثبت.
يحضرني هنا أن أذكر إحقاقاً للحق أن صورة البرادعي تأثرت عموما بمواقف وأساليب مؤيديه والمحيطين به ربما أكثر مما تأثرت بمواقف وأداء البرادعي "الشخص" وهو ما لا يعفيه من المسئولية لأن هذا كان نتيجة طبيعية لفراغ دائم خلفه غياب "الشخص الأصيل" عن المشهد وتفاصيله أغلب الوقت، وهو فراغ ملأه أداء وفكر "الوكيل" ممثلا في الدائرة السياسية والإعلامية المحيطة به وجمهور مؤيديه.
وفيما يلي استعراض للأسباب التي دفعتني لاتخاذ هذه المواقف من الرجل بشكل ربما يبدو ظاهره أنه مبالغ فيه:
أولاً: خيبة أمل عريضة تجاه الرجل مقارنة بما كان منتظراً منه.
قل لي إن كنت أهلاوياً متحمساً، إذا ما أضاع لاعب من الأهلي انفراداً مباشراً بالمرمى ، من سيكون اللاعب الأكثر احتمالا أن يحظى بسبابك الكروي المتشنج إذا كان هو من أهدر الهدف ( جدو أم حسام عاشور)؟! من الجلي لأي متابع للكرة أنك لن تفاجأ كثيراً إذا ما أهدر عاشور هدفا أو انفراداً، أنت لا تنتظر منه ذلك بل على العكس أنت ستفاجأ كثيرا وتحييه بحراره إذا ما أحسن التصرف في الكرة، أما جدو فأنت تنتظر منه التهديف، هذا دوره وهذه إمكانياته ولن يكون من السهل عليك تقبل إهداره للفرص.
أي أن خيبة الأمل تجاه أي شخص تتناسب طردياً مع التوقعات المرجوه منه وكما تقول أمثالنا الدارجه: غلطة الشاطر بألف، وقد ارتكب محمد البرادعي في تقديري خلال العام الماضي ما يرقى إلى الجرائم في السياسه وليس مجرد أخطاء.
كثيراً ما تعرض العبد لله لنقد حاد من كثير من أصدقائي حول تركيزي مع شخص محمد البرادعي وانتقادي له دون سواه من السياسيين وتلقيت كثيرا من التقريع يطالبني بانتقاد غيره ، ولا أدري ما هي أهمية أن أنتقد شخصاً مثل توفيق عكاشة مثلاً؟ هل أقلق على مصير البلاد من تأثير قراراته وأفكاره السياسيه على مناصريه ال 200 في حين أرى ما أعتبره "عكاً" منقطع النظير من أحد أهم القيادات السياسية تأثيرا في الطبقة الوسطى والعليا؟!
أريد أن أقول بمنتهى الوضوح أنني أرى أن محمد البرادعي كان يوم 12 فبراير 2011 أكثر مصري مؤهل لكي يصعد إلى مقعد قيادة الثورة التي ولدت بلا قائد وكان أكثر السياسيين المؤهلين لكي يكون محل توافق التيارات السياسية المختلفة كرئيس جديد للبلاد ، كان هو شخصياً الرئيس التوافقي الذي يبحثون عنه الآن، كان هو المرشح الرئاسي الذي كان في ذهن معظم قادة الإخوان أن يدعموه عندما قرروا أنهم لن يتقدموا بمرشح من داخلهم.
ولكن الرجل (وبنجاح منقطع النظير يحسد عليه) أن يصبح طرفاً في الاستقطاب عوضاً عن أن يكون نقطة للتوافق ، نجح عبر 11 شهرا قضاها كمرشح محتمل في أن يتحول من أبرز مرشح إلى ناشط على "تويتر"، نجح في أن يبتعد عن الناس عندما كان يجب عليه أن يقترب منهم، وحقق إعجازاً في مجال العلاقات العامة بعد أن نجح في اجتذاب كراهية ألاف من نخبة ونشطاء الإسلاميين ممن لم يكن لهم معه قبل ذلك خصومة. هذا فضلا عن نفور قطاعات لا بأس بها إطلاقاً من اليساريين والقوميين.
لقد خيب الرجل أمالي فيه أنا وآخرين وبشدة ونجح في خنق خياراتي الوطنية والسياسية إلى حيث خندقي الفكري الأساسي.
هل قد يغير ذلك شيئاً من رأي الدراويش والمريدين؟ بالتأكيد لن يغير هذا رأي من يرى أنه لم يكن في الإمكان أفضل مما كان وأن الرجل قد فعل كل ما كان يجب أن يفعله كما كان يجب أن يفعله.
ثانياً: تقديس الرجل من قبل مناصريه وإنزاله منازل هو ليس لها
أحد أكثر الأشياء استفزازا في ظاهرة محمد البرادعي هي حالة "الدروشة" التي يتعامل بها مؤيديه معه، بداية من عناصر النخبة السياسية والإعلامية التي تكاد تفرضه علينا فرضا وصولاً إلى قطاعات الشباب الإنترنتي الذي أصبح تأييد البرادعي بالنسبة لهم نوعاً من أنواع الموضة وشكلاً من أشكال الوجاهة الشخصية.
دعك طبعاً من الفكرة التي ظلت ترعبني وهي أنني سأستبدل رئيس "أول طلعة جوية" برئيس "أول من نادى بالتغيير" أي أن تستمر فكرة تحصين الحاكم بناء على سابقة أعماله ضد النقد أو الهجوم! وهو أمر شديد الاستفزاز خصوصا إذا ما اقترن بشخصنة الثورة ومن ثم الوطن في فرد واعتباره الأمل الأول أو الوحيد!
للرجل دور لا شك يستحق التقدير والشكر عليه في النضال ضد نظام مبارك ليس لصاحب هذه السطور أن يزايد عليه لكن تضخيم هذا الدور ووصفه بغير ما فيه به ظلمٌ شديد للألاف من المناضلين ممن كان لهم السبق في النضال وقت أن كان محمد البرادعي ينعم بمزايا منصبه الدولي المرموق ويتم استقباله بحفاوة داخل قصر العروبة ليحني رأسه متلقياً قلادة النيل من مبارك ثم يرفعها مثنياً عليه وعلى حكمته في إدارة البلاد ( آه ، عذراً ، لقد نسيت أن مبارك لم يكن سيئاً أبداً قبل 2010 عندما قرر البرادعي أن يعارضه). خاصة عندما نضع في الاعتبار أن الوضع الدبلوماسي الدولي للرجل قد وفر له حماية من التنكيل لم تتوفر لأقرانه ممن وقفوا في وجه الظلم والطغيان.
وقد تم ذلك عبر إنتاج مجموعة من الأساطير في صورة عبارات معلبة تنسج حول الرجل هالة من القداسة الوطنية.
أول هذه العبارات وأكثرها استفزازا هي أن (البرادعي هو أول من نادى بالتغيير)! وهي عباره دعت الدكتورة هبة رؤوف عزت أحد أكثر رموز الثورة حلماً وتعقلاً وخلقاً أن تصفها أخيراً بأنها "مذهلة حقاً" وهو لفظ شديد حين يصدر من هبة رؤوف لو كنتم تعلمون، أما حين تقع مثل هذه العبارة على أذن عصبية مثل أذني فإن ماكينة الأصوات السكندرية الأصيلة الموجودة داخل أنفي تصبح هي الشيء الوحيد الذي يمنع إصابتي بالشلل.
البرادعي هو أول من نادى بالتغيير في مصر، لم أكن أعلم أن ال300 مؤسس لحركة كفاية الذين أسسوها تحت شعار (لا للتمديد ، لا للتوريث) عام 2004 كانوا يطلبون التغيير في لعبة المزرعة السعيدة!. لم أكن أعلم أن أيمن نور وخيرت الشاطر كانا يقضيان وقتاً رائعاً في طره من أجل مطالبتهم بالكاتشب مع الطعام!. لم أكن أعلم أن المسيري كان يقاتل في المظاهرات وقد تجاوز السبعين والسرطان ينهش جسمه من أجل تغيير زوجته بشابة فاتنه!، لم أكن أعلم أن أبو الفتوح وصباحي وقفا أمام السادات لكي يتقدما لخطبة ابنته وأنهما قضيا عمرهما في الكفاح بين اتحادات الطلاب والنقابات والبرلمان بهدف جمع ثمن الشبكة! لم أكن أعلم أن مجدي أحمد حسين كان يقضي وقته في السجن الحربي عندما عاد البرادعي لمصر لرغبته في أن يتمكن العسكريون من إطالة شعورهم كذيل الحصان! (من هو مجدي أحمد حسين أصلاًََ هو السؤال الذي يدور في أذهان البعض الآن؟) ، أما الإخوان المسلمون فقد اتضح لنا جميعاً أن كل من عذبوا وقتلوا وشردوا وأضطُهدوا منهم عبر ستة عقود فعلوا ذلك بهدف التأهل للدوري الممتاز حتى يتمكنوا من مشاهدة الأهلي ولاعبيه رأي العين في الملاعب!
البرادعي هو (ملهم - قائد – مفجر) الثورة! وهي عبارة أخرى مذهلة تثبت لنا كيف أن مفجري الثورات وقادتها غالباً ما لا يكونون موجودون وقت اندلاعها! (خاصة عندما يكون هذا الوقت محددا مسبقاً بل وتم توجيه الدعوة لهم للمشاركة في يوم الإندلاع) ، وهؤلاء غالبا ما لا يشاركون في أكثر من 10% من فعالياتها! هو أمر لن أبذل كثيراً في دحضه لأن الحقيقة أن أحداً إلا الله (ولا حتى من دعوا ونظموا ليوم 25 يناير) كان يعلم أنه سيتحول إلى ثورة حقيقية قبل هذا اليوم ولا ألوم أحداً لم يشترك قبل جمعة الغضب، لكنني أتشكك كثيراً في أن أفترض أن "قائد" ثورة يناير لم ينزل ميدان التحرير أو أي ميدان آخر بعد جمعة الغضب وحتى التنحي سوى مرة واحدة فقط! ، وعموماً أنا أدعوا من لم يقرأ كتاب وائل غنيم عن الثورة أن يفعل ذلك حتى يدرك دور الرجل الحقيقي في ترتيب هذه الأحداث.
أيضاً من العبارات الرائعة التي كانت تجعل المرء يفخر حقاً بالعقليات التي أنتجتها تشبيه البرادعي برواد وقادة التغيير العالميين أمثال غاندي ونيلسون مانديلا ومارتن لوثر كينج! حقاً؟! غاندي؟َ! هل حاول أحد هؤلاء أن يقرأ سيرة غاندي على "ويكيبيديا"؟ أخبروني كيف تضاهي تويتات البرادعي 20 عاماً أمضاها غاندي مناضلاُ من أجل حقوق الهنود بجنوب إفريقيا أعقبها بما يزيد عن 40 عاماً من النضال من أجل استقلال الهند انتهت بالاستقلال فعلاً واغتياله؟ كيف تضاهي 27 عاماً قضاها مانديلا في سجون ظالميه؟ كيف تضاهي السنين التي قضاها كينج مناضلاُ في الشارع من أجل الحقوق المدنية للسود والتي أنهاها هو الآخر صريعاً؟ إن هؤلاء لم يصنعوا سيرتهم بالنضال عن بعد والرجل أبعد ما يكون عن هذه النماذج حتى أن مقارنته بهم تعد إهانة لتاريخهم. بل إنني حتى لا أستطيع أن أقارن سيرته بنضال أنور السادات قبل ثورة يوليو لولا ما لحق بسيرة الأخير من دنس نتج عن دوره في إنتاج نظام ثورة يوليو نفسه والذي ما زلنا نعاني لإزالته حتى اليوم.
هل تغير انطباعك عن الدور التاريخي للرجل مقارنة بآخرين؟ عليك أن تعلم تاريخ الجميع أولا لكي تدرك كيف تظلم الرجل وتظلم غيره عندما تنزله منزلة هي ليست له.
ثالثاً: تاريخه الشخصي وتركيبته الفكرية والسياسية
هذا رجل ليس منا ولسنا منه ، كم مرة كتبت هذه الكلمة عن محمد البرادعي؟
أكنت أنا من وصفه بأنه "خواجه"؟ أعتقد أن هذا كان عبدالحليم قنديل. هل أنا من قلت أنه يعتبر نيويورك وطناً؟ كلا إنه البرادعي نفسه في حديثه الشهير والكاشف مع النيويورك تايمز وتعليقاته التلقائية عن صداقاته المبكرة وعاداته الاجتماعية وأراؤه في بعض شعائرنا الدينية وهو الحوار الذي حاول كثيرون من دراويشه تجميله بشكل أو بآخر غافلين عن أننا نستطيع بسهولة قراءة الأصل الإنجليزي للمقابلة من على الإنترنت لنرى كيف تكلم الرجل بأريحية .
كانت رئاسة البرادعي للجنة تحكيم مؤتمر برلين السينمائي لاحقة على انسحابه من سباق الرئاسة المصرية ولكنه كان كاشفا جديدا لشخصية غربية التفكير حتى النخاع. حفلت مواقع التواصل بالتندر على قبلة البرادعي لأنجلينا جولي وأصبح الرجل "نمس" السياسه المصرية بين عشية وضحاها مع أن واقع الأمر هو ما قاله البرادعي نفسه في حديثه اللاحق على قناة النهار وهي أنه تصرف بتلقائية وبراءة تامة، فهكذا يسلم الرجال على النساء في ثقافته.
دعكم طبعاً من موضوع الفيلم الفائز بالجائزة نفسه وكيف أن الرجل لم يجد أي غضاضه أو حساسية دينية أو حتى ثقافية في أن يكون شريكاً في منح فيلم مثله جائزة دولية.
لقد حولت سنين الغربة الطويلة والعمل لعقود في العالم الغربي عقلية محمد البرادعي إلى عقلية غربية تماماً في جميع منطلقاتها وطريقة تفكيرها، وهو أمرٌ لا ضير منه إذا تعلق بعلماء كبار أمثال أحمد زويل أو مجدي يعقوب ممن ننتظر إسهامات عقولهم في نهضة هذه البلاد لكنه أمر شديد الخطورة في قائد سياسي ننتظر منه أن يكون الفاعل الأول في تشكيل هوية وثقافة مجتمعنا.
أما عن التاريخ المهني والعقلية السياسية فلم يغفل عقلي أبداً تأثير سنين عمله الطويلة في المنظمات الدولية على تفكيره السياسي.
أتعبت محاولات تأكيد أو نفي دور محمد البرادعي في التمهيد لغزو العراق معارضيه ومؤيديه على السواء، وهو غرق في تفصيلة تاريخية تصادف أن عاصرت عمل الرجل بالوكالة الدولية للطاقة الذ رية ، إن مكمن الخطر الحقيقي هو أن محمد البرادعي عبر سنين طويلة في موقعه ذلك أصبح ترساً في النظام العالمي الغربي الهوى والهوية والقيادة وهو بذلك أصبح خادماً للمصالح الغربية بمجرد وجوده كجزء من النظام بغض النظر عن رؤيتنا لشخصه. تماماً ككل من كان جزءاً من نظام مبارك لفترة طويلة، لا يعنينا كثيراً مقدار النزاهة أو الكفاءة التي تمتع بها فقد استخدمت امكانياته وكفاءاته تلك في خدمة نظام فاسد.
أصبح البرادعي مواطناً "دولياً" بامتياز يخدم نظامه الدولي هذا باخلاص وتفان ، يتحدث ببساطة عن التعاون الذي يلقاه من المخابرات المركزية الأمريكية في جمع المعلومات عن برنامج العراق النووي ويتحدث بكل حسم عن أن أي مقدار من عدم التعاون مع المفتشين الدوليين يجب أن يواجه دون تسامح، ويذهب لزيارة إسرائيل ليجلس مبتسماً على مائدة الاجتماعات مع أرييل شارون. لا عجب أن يمنح الرجل جائزة نوبل فقد كانت خدماته في سبيل سلام العالم الغربي أكثر من جليلة.
لطالما تسائلت، هل فكر واحد ممن يتحمسون للرجل ويعدون حصوله على الجائزة المرموقة يوماً واحداً من مناقبه أن يذهب إلى الموقع الرسمي للجائزة ليعلم لم تم منحها للرجل مناصفة مع وكالة الطاقة الذرية (الجهود المبذولة لمنع الانتشار النووي هي المؤهل لذلك). وهو عمل من أكثر الأعمال نبلاً، فقط عندما تقوم به مع كل دول العالم وليس مع مجموعة منتقاه بعناية.
لا أريد أن أبدوا متحاملاً ولكنني لا أستطيع أن أفترض حسن النية في دول تتمتع بغطاء المظلة النووية للناتو، وكأن الجائزة كانت ليقول هؤلاء: شكراً لكم على جهودكم المبذولة لمنع وقوع السلاح النووي بأيدي أعدائنا، فنحن نمتلكه بالفعل ونريد أن نستمر في امتلاكه منفردين.
وطبعاً لا يعيب تاريخ جائزة نوبل للسلام أنها منحت لسفاح معروف مثل هنري كيسنجر فقد سبق منحها لأشخاص ظرفاء وأطهار وأقرب إلى الملائكة في سلميتهم مثل مناحم بيجن وإسحق رابين وشيمون بيريز. هذا فضلاً عن ديكتاتور مصري غير منتخب أسمه أنور السادات حصل عليها مكافأةً له على إبرامه صلحاً منفرداً مع إسرائيل رغماً عن أنف شعبه.
ولكي أضرب مثالاً على تأثير المواطنة "الدولية" على تفكير الرجل أذكر واقعة تعود لشهور مضت عندما بادر ثلاثة من النشطاء (إبراهيم الهضيبي و تميم البرغوثي ونوارة نجم) بمحاولة صناعة نقاط الحد الأدنى من التوافق الوطني المصري بتحديد 3 ثوابت وطنية في السياسة الداخلية والخارجية ليكون عليها إجماع وطني. وبدأت محاولتهم تلك بعرضها على مرشحي الرئاسة المحتملين. كان أحد هذه الثوابت الثلاث هي مساندة الفلسطينيين و العداء مع إسرائيل. وافق أبو الفتوح وحمدين بدون تحفظ أما محمد البرادعي فكان عليه أن يتحفظ باضافة (في إطار القانون الدولي). لا يجب أبداً أن تخرج في سياستك الخارجية وعلاقاتك مع إسرائيل عن سقف القانون الدولي الذي رسمته القوى الغربية.
هذا رجل أصر لشهور طويلة أن يطلق من كل زقزقة عبر تويتر نسختين، واحدة بالعربية والأخرى بالانجليزية!
هذا رجل ليس منا ولسنا منه.
كل ما سبق أيضاًُ قد لا يكون ذو تأثير عند من تركيبته الفكرية والثقافية غربية الروح ولو جزئياً لأنه يرى منطق الصواب والخطأ من نفس المنطلقات.
رابعا: أداء الرجل السياسي والإعلامي ومواقفه منذ تنحي مبارك حتى اليوم
أتذكر جيداً ليلة ساهرة من الليالي الأولى للثورة حين كنت جالساً بغرفة المعيشة ببيت صهري بالإسكندرية نتابع الجزيرة كالمعتاد ونتجاذب أطراف الحديث حين تساءل حموي عن من يصلح رئيساً للجمهورية بعد تنحي مبارك فإذا بزوجتي تقول دون تردد (عمرو موسى) فيشير لها أبوها بإبهامه معلناً أن رأيها قد وافق رأيه. "نهاااار اسود" كانت هي الكلمة التي دارت داخل ذهني. لا أتذكر كيف اتجه الحديث للبرادعي أو إن كنت توجهت أنا به له، ولكنني أتذكر تماماً أنني حاولت مجتهداً أن أحول تفكير زوجتي بعيداً عن موسى موضحاً لها أنه لا يعقل أن نطيح بمبارك ثم نأتي بمن عمل سكرتيراً له لعقد من الزمن. وبذلت وقتأً كذلك لكي أقنعها بالتغاضي عن (تهتهة) البرادعي والنظر إلى تفكيره. وهو ما أحسب أنني حققت فيه ما صبوت إليه وقتها، ولم أكن أعلم أن الرجل سيأتي إلى ما عملت من عمل ويجعله هباءً منثوراً بأفعاله وأقواله بعد ذلك.
لم يكن هناك في منتصف الصورة سوى البرادعي وموسى ولم يكن لدى الإسلاميين وأنصار المشروع الإسلامي مرشح فعلي إلا بعض الأحلام. وأذكر أنني كان أقصى طموحاتي "إسلامياً" وقتها أن يترشح شاب إسلامي وسيم ذو قبول إعلامي ونخبوي ويدعى "عصام سلطان" الذي لم يكن وقتها قد حاز شهرته تلك بعد. وفي تقديري الشخصي فإنه عندما قرر مجلس شورى الإخوان عدم التقدم بمرشح عن الإخوان المسلمين في انتخابات رئيس الجمهورية فإن محمد البرادعي كان هو ذلك المرشح التوافقي المستقر في ذهن أغلب قادة الجماعة لدعمه.
كان الرجل هو مرشح كل من يحلم أن يتجاوز مبارك بكل تركته بعد الثورة ولكنه نجح وبكفاءة عالية في أن يقتل كل فرصه لأن يصبح هو قائد هذه الثورة المنتخب حتى أنني قلت لواحد من أكثر من أحترمهم من مؤيديه يوماً إن الرجل يبدوا كما لوكان يسعى جاهداً لكي يخسر السباق! فكيف كان ذلك وكيف تحول الرجل من المرشح البارز إلى المرشح المنسحب؟
أولاً: مرشح فيينا والثائر الحاضر عبر الزقزقة!
لطالما كان أحد أكثر نقاط ضعف محمد البرادعي اعتباره وافداً على المجتمع المصري باغترابه الطويل عن مصر طوال فترة حياته المهنية والتي أتبعها بالنزر اليسير من الحضور داخل مصر حتى عقب تأسيس الجمعية الوطنية للتغيير. وهو الغياب الذي كان مثار انتقاد شديد من زملائه في الجمعية مما جعل كثيراً منهم ينفض عن الرجل لهذا السبب تحديداَ وليس مثال حمدي قنديل وحسن نافعة ببعيد بل ووائل غنيم الذي كان يجد صعوبة في الوصول إليه ما جعله يضع ثقله خلف صفحة "كلنا خالد سعيد" بعيداً عن الارتباط بصفحة محمد البرادعي.
كان مبرر البرادعي لكثرة السفر خارج مصر والاكتفاء بإطلاق الزقزقات عبر تويتر مع إطلالة من آن لآخر عبر الفضائيات هو أن النظام كان يمنعه من تسجيل البرامج التليفزيونية والحوارات الصحفية داخل مصر، ناهيك عن القيود على حركته بالشارع، وهي حجة كانت مقنعة تماماً حتى 11 فبراير 2011
هل يعلم مؤيدوا البرادعي كم من مؤتمر جماهيري كبير حضره محمد البرادعي كجزء من نشاط حملته الرئاسية أو حتى كجزء من نشر الوعي بمشروعه السياسي عبر نحو عام قضاها الرجل مرشحاً للرئاسة؟ صفر! نعم ليس ما أكتبه خطأً فلم يقم محمد البرادعي مرة واحدة مؤتمراً جماهيرياً مفتوحاً يتحدث فيه إلى الناس ويستمع فيه إليهم!
إن كل ما أذكره من نشاط ميداني لمحمد البرادعي عبر هذا العام قيامه بحضور اجتماع حاشد لأعضاء حملته الرئاسية في ساقية الصاوي وصلاة الجمعة في بلده الأم "أبيار" بمحافظة الغربية وزيارة ميدانية قام بها لأحد مناطق العشوائيات في حضور كاميرات 90 دقيقة وصاحبها عمرو الليثي!
رجل أمضى عاماً كاملاً مرشحاً للرئاسة ولم ينزل يوماً لامبابه أو شبرا أو عين شمس أو الهرم أو حلوان أو دار السلام ليتحدث إلى الناس، لم يطأ بقدمه مدينة الإسكندرية أو مدن القناة ولم يفكر أن يزور الصعيد أو يتجول في قرى الدلتا!
بل وحتى على صعيد العمل الثوري، فانه وعبر هذا العام كله لم يقدم المرجو منه لثوار يسعون إلى قيادة مقنعة ، فالرجل كان خارج مصر يوم 25 يناير وشارك بداية من جمعة الغضب وزار الميدان ليوم واحد أثناء الاعتصام! ومنذ التنحي حتى اليوم لم تطأ قدمه أرض الميدان سوى وقت صلاة الجمعة يوم 25 نوفمبر التي أعقبت أحداث محمد محمود! أرجوكم أن تقارنوا ذلك بنشاط المرشحين الرئاسيين الآخرين داخل الميدان أمثال أبو الفتوح وأيمن نور والعوا وأبو اسماعيل وصباحي وبثينة كامل!
وحتى في أكبر وأهم معركة سياسية عقب التنحي (معركة الاستفتاء على تعديلات الدستور) وهي معركة مفصلية يتوقف عليها مصير الدستور، فإن الرجل لم يبذل مجهوداً حقيقياً في الحشد لموقفه السياسي (بغض النظر عن رأيي في مضمون هذا الموقف) واكتفى ببعض ثوان مصورة في الفيديو النخبوي الشهير. أرجوك أن تقارن هذا الأداء بأداء سليم العوا الذي يماثله في العمر (والذي لم يكن مرشحا رئاسياً بعد في ذلك الوقت) حين ألقى نحو عشر محاضرات جماهيرية حاشدة في عشر محافظات مختلفه في الأيام السابقة على الاستفتاء ليشرح موقفه السياسي ويروج ويحشد لصالح الاختيار الذي يرى فيه مصلحة للوطن. أما محمد البرادعي فقد قضى الأيام الأخيرة قبل أهم استفتاء في تاريخ مصر خارج البلاد كعادته وحتى حين عاد وتعرض للاعتداء عليه قبل الإدلاء بصوته ذهب إلى بيته كأي طفل باك بدلا من أن يصر على الادلاء بصوته ويتوجه للجنة أخرى ليصوت فيها!
كان البرادعي غائباً عن التعليق أو متباطئاً عن اتخاذ موقف واضح في كثير من الأحداث الجسيمة والمفصلية وغالباً ما اكتفى بزقزقاته المبتورة دون محاولة جادة لتأصيل مواقفه السياسية فكرياً وتوضيح المغزى الوطني من ورائها.
كان غياب الرجل عن الواقع المصري نقطة ضعفه الكبرى ابتداءً وقد بذل كل ما يمكنه لكي يزيد من هذا الغياب بقدر ما استطاع.
ثانياَ: مع العسكر... (أخاصمك آه، أسيبك لا)
تبدوا الصورة الذهنية عن البرادعي لدى أغلب مناصريه أنه مناضل حقيقي ضد حكم العسكر ويضعونه على قمة المعارضين للمجلس العسكري مع انتقاده الدائم لسياسات وقرارات المجلس العسكري.
وبالنسبة لمعارض هصور للمجلس العسكري يبدو البرادعي أحد أكثرالسياسيين اجتماعاً بقادة المجلس العسكري فقد كان أحد الحضور في اجتماع المشير طنطاوي والفريق عنان الذي عقد في مارس عقب التنحي ممن عدوا رموزاً سياسية وطنية (حضره أيضاً الجنزوري وعمرو موسى وأحمد كمال أبو المجد وفاروق سلطان رئيس المحكمة الدستورية وسري صيام رئيس محكمة النقض وقتها ورجل الأعمال نجيب ساويرس) وهو اجتماع كما ترون لم يكن به رجل واحد محسوب على الثورة أو معارضة مبارك.
وكان الاجتماع الثاني الذي تحدث عنه البرادعي في لقائه مع الدكتور عمرو خالد على شاشة التليفزيون المصري صيفاً ولم نعلم ما مناسبته ثم كان اجتماعه مع المشير في نوفمبر عقب أحداث محمد محمود والذي لم يخرج أحد طرفيه ليخبرنا بتفاصيل ما دار فيه وأخيراً ما رواه أحد حوارييه (إبراهيم عيسى) في مارس 2012 من لقاء عابر مع اللواء مراد موافي رئيس جهاز المخابرات والذي يبدو أن الأخير قد نال فيه الرضى البرادعاوي لما شهدناه من مديح وتلميع للرجل عقب اللقاء من كل من إبراهيم عيسى وحازم عبدالعظيم.
كان البرادعي هو أول السياسيين البارزين اعتراضاً على الستة أشهرالانتقالية التي ألزم المجلس العسكري نفسه بها في إعلانه الدستوري الأول الصادر في 13 فبراير 2011. (Why the rush?) هو التعبير الإنجليزي الذي استخدمه ليستنكر الاستعجال في نقل السلطة لمدنيين منتخبين. وكان أول من طالب بأن تمتد الفترة الانتقالية لسنتين كاملتين حتى يتم تسليم السلطة للمدنيين بانتخابات حرة. وعلى عكس ما قد يتواتر لدى كثير من مناصريه فإن مطالبته بمجلس رئاسي انتقالي لم تكن هي المطالبة الرئيسية ولكن الفكرة كانت حرفياً كما أنقلها من حسابه على تويتر"اذا كان المجلس الاعلى مصراً على ترك إدارة البلاد بعد ستة اشهرفمجلس رئاسى هو الحل. الأهم وضع لبنات ديمقراطية حقة .يجب ان لا نكون أسرى لعامل الوقت". دعك من عبثية فكرة أن يرحل المجلس العسكري عن السلطة ليأتي إليها مجلس رئاسي من اختيار المجلس العسكري!
لا أدري هل كان البرادعي هو الوحيد في مصر الذي لا يعلم أن المجلس العسكري بكامل تشكيله معين من قبل مبارك؟ وأن استمرار العسكر في السلظة خطر حقيقي على الديمقراطية؟ وأن نفس هذا السيناريو هو ما حدث في بداية الخمسينيات لأن هناك من لم يكن مستعداً للانتخابات؟
لم تنته الكوارث عند هذا الحد، فالرجل صاحب الرؤية الثاقبة لم يكتف بأن يطلب من العسكر البقاء لفترة انتقالية طويلة لكنه أسس لنظرية أن يبقى العسكر معنا دستورياً للأبد، فلم أمسك الرجل يوماً مخطئاً عبر نضاله الطويل لكتابة الدستور قبل الانتخابات بالمطالبة الصريحة أن تكون الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور منتخبة من الشعب وهو ما يعني واقعياً وضع الدستور بكامله تحت رحمة العسكر.
ثم ما كان منه انتقل الرجل بسلاسة من تسليم الدستور للعسكر "ضمنياً" عبر تغطية فكرة أن يختاروا هم الجمعية التأسيسية دون انتخابات سياسياً إلى التنظير لكيف يفرضون سيطرتهم عملياً حين طرح الرجل عبر حواره للأهرام في إبريل فكرة أن الجيش يجب أن يكون هو الحامي لمدنية الدولة ، ومن أفضل من حماية المدنية من العسكريين؟!
ورغم أن الرجل كان أكثر نعومة من الطرح الفج لهشام البسطويسي حول وضع العسكر في الدستور فإنه مهد لما عرف بعد ذلك بوثيقة السلمي حينما خص مادة لوضع القوات المسلحة في وثيقته الدستورية التي من المفترض أنها تتحدث عن المبادئ الأساسية للدستور المعنية بهوية الدولة والحقوق والحريات! حاول أحد أصدقائي أن يجعلني أنظر للأمر بشئ من حسن النية ولكنني لم أبتلع أبداً لماذا تتحدث وثيقة مبادئ دستورية خالية من أي إشارة لنظام الحكم أو أي ذكر لأي مؤسسة من مؤسسات الدولة عن القوات المسلحة حصرياً دوناً عن كل تلك المؤسسات؟!
الخلاصة هي أن الرجل الذي يريد أن يقنعنا أنه معارض للعسكر أراد أن نستمر عامين تحت حكم العسكر أو تحت مجلس رئاسي يعينه العسكر ويريد أن تكتب جمعية تأسيسية معينة من العسكر دستوراً يقول أن الدولة المدنية هي تحت وصاية وفي حماية العسكر!
هل هناك فائدة من ذكر هذه المواقف لمن قد يكون الحكم العسكري الديكتاتوري أو الوصاية العسكرية المقنعة أحب إلى قلبه من أن يخضع للحكم الديمقراطي لخصومه الفكريين أو السياسيين؟!
ثالثا: من محور للتوافق إلى مشعل للاستقطاب
لأن نظام مبارك كان حريصاً عبر سنين حكمه على سحق أي قيادة يمكن أن تشكل بديلاً محتملاً لدى الناس حتى ولو كانت شخصاً ذو قبول أو شعبية من داخل النظام بداية من أحمد رشدي وأبو غزالة إلى عمرو موسى وأحمد جويلي وكمال الجنزوري. ولأنه أيضاُ عمل على إجهاض كل معارض يمكن أن يشكل بديلاً عن طريق السجن و التشهير والحصار الإعلامي والاستقطاب الفكري والوقيعة التنظيمية بحيث أصبحت معارضة مبارك ممزقة ومنقسمة على نفسها (راجع ماحدث داخل الوفد والأحرار والعمل والغد والناصري) ومن نجى من الانقسام الداخلي (الإخوان) لم ينج من العزل الإعلامي (المحظورة) والحصار المادي والقمعي (بأمن الدولة والمحاكم العسكرية)
لذلك كان الحل الذي تفتق عنه ذهن المناضلين ضد النظام مثل عبدالرحمن يوسف ويحيى حسين عبدالهادي هو إيجاد بديل للمصريين يكسر حالة وفكرة أن الأب لا بديل له سوى الوريث، وكان هناك ثلاثة متطلبات للبديل، أن يكون من خارج النظام السياسي القائم، وأن يكون مشهوراً بما فيه الكفاية ومعروفاً بين المصريين وأن لا يكون طرفاً في الاستقطاب الأيديولوجي والحزبي القائم محلياًً مما يؤهله لكي تتوافق حوله قوى المعارضة بمختلف توجهاتها، وكان محمد البرادعي هو هذا الرجل الذي لم يجد الإسلاميون والليبراليون واليساريون والناصريون حرجاً في الالتفاف حوله عبر إطار تنظيمي توافقي هو الجمعية الوطنية للتغيير.
كانت هذه هي ميزة الرجل الكبرى فكيف أصبح الرجل خلال عام رمزاً للخصومة مع التيار السياسي الأكبر في البلاد؟
بدأت أول نذر الاستقطاب بالحديث عن المادة الثانية من الدستور المصري. و كان من أشعل الحديث حولها – على عكس ما هو مشهور – خطاب رسمي أرسله أسامة الغزالي حرب (أحد السياسيين المقربين من البرادعي) بصفته رئيس حزب الجبهة الديمقراطية آنذاك إلى المجلس العسكري يطالب فيه بإلغاء المادة الثانية من الدستور المصري وذلك بعد مرور اسبوع واحد على التنحي.
وبدلا من أن يحاول البرادعي أن يمتص توجسات الإسلاميين حول الأمر وتخوفاتهم فإذا بالرجل يصب مزيداً من الزيت على النار ليستنكر فكرة أن يكون للدولة دين! وهو أمر عجيب لأنه تطرق إلى الشطر الأكثر استقرارا من المادة الثانية وهو أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام ! وهو ما كان دائماً جزءاً من دساتير مصر المعدة في 1923 و1954 و1971!
ولا بأس من أن نتطرق في نفس الإجابة إلى نصر حامد أبو زيد لنصفه بالعالم الفاضل لكي نتوافق أكثر مع التيار العريض في المجتمع.
وفي مقابلة لاحقة وفي محاولة منه لتدارك الأمر ونفي كونه ضد المادة الثانية تحدث عن الشطر الآخر من النص محاولاً تفسير كلمة "مبادئ الشريعة" الواردة في هذا الشطر ركزاً على كلمة "المبادئ" بأنها المبادئ الأخلاقية العامة المتضمنه في كل الأديان وقال نصاً (العدالة ، المساواه ، الصدق، الأمانة) مما أعطى إيحاء بانه يحاول أن يفرغ المادة من مضمونها بإحالتها إلى معان عامة غير ملتزمة بشريعة الإسلام. طبعاً دعك من أن هذا الكلام يتناقض مع تفسير المحكمة الدستورية العليا لنص كلمة "مبادئ" الواردة في المادة الثانية والذي قرر أن المبادئ هي الأحكام قطعية الثبوت قطعية الدلالة.
ثم كانت معركة الاستفتاء هي المواجهة الأولى الواسعة ضد شركائة السياسيين السابقين من الإسلاميين ، فقد اتخذ البرادعي قرار رفض التعديلات مع الجمعية الوطنية للتغيير دون تشاور مع أي طرف إسلامي ممن هم شركاء في الجمعية (الإخوان وحزب الوسط)
ذلك بالرغم من أن البرادعي كان يجب أن يكون أحد أكثر الناس إدراكاً لأهمية الوزن التنظيمي للإخوان في الشارع المصري خاصة بعد تجربته معهم في جمع التوقيعات لبيان الجمعية الوطنية للتغيير ونجاحهم منفردين في جمع 800 ألف توقيع في مقابل 300 ألف توقيع فقط قبل أن يتدخلوا بثقلهم.
وكان الأمر مثيراً للريبة فعلاً، ما هو الأمر الذي يخشى منه الرافضون للتعديلات حال وصول الإخوان لأغلبية حاكمة على وضع الدستور؟ لا يتعلق الأمر بنظام الحكم حتماًً لأن المعلن في ذلك الوقت من البرادعي والإخوان والوفد والجبهة وأغلب القوى السياسية هو مساندة نظام الحكم البرلماني.
وعبر عام كامل من الصراع السياسي أصبح محمد البرادعي وحوارييه من السياسيين والإعلاميين طرفاً رئيسياً في الاستقطاب السياسي في البلاد حتى أصبح الرجل رمزاً لكل السياسيين المناهضين للمشروع الإسلامي ككل. ولم يدخر الرجل جهداً في مواجهة اختيارات الإسلاميين السياسية على طول الخط وفي التشكيك في أي مكسب سياسي يحققونه على الأرض بداية من الاستفتاء الدستوري حتى الانتخابات البرلمانية التي علق على نتيجتها بأن البرلمان الناتج عنها لا يعبر عن الشعب! هذا بديهي يا سادة، تويتر هو الذي يعبر عن الشعب!
هذه المواقف حجزت للرجل مكاناً مرموقاً داخل نخبة (فيها لاخفيها) التي تتفنن في هدم المعبد على رؤوس الجميع ووضع العصا لتعيق العجلة طالما أنها ليست في مقعد قيادة العربة.
وحتى عندما ظهرت بارقة أمل للتوافق على يد بعض الشباب ممن بذلوا جهداً لتجميع أبرز مرشحي الرئاسة بأمل الوصول لخارطة طريق تخرج البلاد من نفق الحكم العسكري بعد ان انقضت الأشهر السته التي وعد بها العسكر إلى لا شيء أبى البرادعي إلا أن ينسحب من البيان المشترك الذي طالب بانتخابات الرئاسة عقب انتخابات البرلمان مباشرة لتقليص الفترة الانتقالية ونقل الحكم للمدنيين وأصر على موقفه المنفرد المطالب بالانتظار حتى كتابة الدستور أولا قبل انتخاب الرئيس.
ولأننا في عصر الاتصال حيث لكل واحد يملك كمبيوتر ويتصل بالانترنت جهازه الإعلامي الخاص الذي يمكنه منه المشاركة في الرأي العام، فإن وجود البرادعي عبر عام كامل في صفوف الطرف المقابل للتيار الإسلامي الذين كان على قواعد الإسلاميين مواجهتهم فكرياً وإعلامياً كل يوم عبر شهور جعل من المستحيل على هذه القواعد (وهي الأكثر تأثيراً وفعالية في تحريك الشارع المصري وتوجيهه) أن تتقبل الرجل أو أن تطيقه حتى لو رأت قياداتها التنظيمية غير ذلك!
بالاختصار، أصبح من المستحيل بيع الرجل للشارع المصري الإسلامي المزاج.
كل ما سبق لن يعني لك شيئاً أيضاً إن كنت غالباً لا تدري ما كنه التيار الإسلامي ولا تطيق الإسلاميين وتنظيماتهم وأفكارهم.
رابعاً: الدستور أولاً ... غصب عنكم
كل مواقف الرجل السابقة تهون في عيني تماما عندما أقارنها بموقفه من الاستفتاء على التعديلات الدستورية وأداؤه إزاءه قبل وبعد اجراء الاستفتاء.
دعك من أن لجنة طارق البشري بدت وكأنها صاغت هذه التعديلات لتلبي كل المطالب السبعة للتغيير التي طالب بها البرادعي نفسه ضمن الجمعية الوطنية للتغيير قبيل الثورة إلا فيما كان أمر تحقيقه متروكاً للقوانين والإجراءات الإدارية (مثل تصويت المصريين بالخارج)
دعك من موقفي الذي يعتبر الرجل قد شارك في أحد أكبر حملات التضليل والنصب على الشعب المصري باسم الشرعية الثورية في الدعوة لرفض تعديلات لجنة البشري وإسقاط دستور 71 (الذي لم يكن فيه أي ذكر لأي سلطة للمجلس العسكري بالمناسبة) وبالتالي إصدار إعلان دستوري مؤقت ليمهد لدستور جديد تماماً، رغم أن أي قارئ جيد للصحف يعلم تماما أن هذا أمر شكلي بحت لأن دستور 71 نفسه كان يحتوي بداخله على آليات تغيير مواده دون تحصين لأي مادة من التعديل أو الحذف (وقد استخدمت هذه الآليات في تعديل الدستور أعوام 1980 و2005 و2006 فعلاً) وكل ما كان يتطلبه الأمر انتخابات حره لبرلمان جديد يعبر عن الشعب ليقوم بتعديل كل مواد الدستور ويصبح لدينا دستور آخر.
دعك من أن حتى الحجة الشكلية سقطت عندما وضعت لجنة طارق البشري آلية كتابة دستور جديد تماما ضمن تعديلاتها وبشكل ديمقراطي يعبر عن إرادة الشعب.
دعك من أن كل الحجج المقابلة التي استخدمت ضد التعديلات كانت مجموعة من الأساطير (راجع الأساطير المؤسسه لدولة (لا) للتعديلات الدستورية) والتي أثبت الوقت أنها لم تكن سوى حجج البلداء الذين يعلمون أن لا وجود لهم في الشارع المصري ويريدون أن يقفزوا على الدستور دون جهد حقيقي على الأرض ودون رجوع لإرادة الشعب غير متورعين عن المخاطرة بإطالة الحكم العسكري ومخاطره على البلاد (هل يتذكر الجميع أن أول المذابح الكبيره "ماسبيرو" كانت بعد مرور مدة الشهور السته على الحكم العسكري؟)
دعك من أن الرجل لم يحاول بشكل جدي (مثلما لم يحاول معسكره كله) أن يوجد بديلاً ديمقراطياً حقيقياً عن طريقه يتم وضع الدستور أولاً كما كان يريد، لم يقدم لنا الرجل طرحاً بديلا يحوي معايير وآليات ينتخب بها الشعب جمعيته التأسيسية. (لأن الهدف كان الهروب من سماع صوت الشعب واختياره من البداية).
دعك أيضاً من كل من أيد التعديلات لتحقيق الهدفين (إنهاء الحكم العسكري بأسرع وقت ممكن و كتابة الدستور عبر ممثلين منتخبين من الشعب) ودعك من الجهال الذين ضحك عليهم الشيوخ فاتبعوهم دون بصيرة أمثال طارق البشري وسليم العوا والمعتز بالله عبدالفتاح وأيمن الصياد وهبة رؤوف عزت و وحيد عبدالمجيد وعمرو الشوبكي وعلاء عبدالفتاح ومجدي أحمد حسين وعبدالرحمن يوسف وفهمي هويدي وأحمد مكي وأحمد خالد توفيق ومحمود الخضيري وعصام سلطان وإسلام لطفي، دعكم من كل هؤلاء العوام المضحوك عليهم باسم الدين.
دعكم من ذلكم كله وافترضوا أن كل هؤلاء لا يفقهون حديثاً ولا يعلمون شيئاً بالثورة ولا بالسياسه ولا بالقانون ولا بمصلحة الوطن وأن الرافضين فقط وعلى رأسهم صاحبنا هم من كانوا يرون الصواب.
المهم أن كل طرف قد أدلى بدلوه وطرح حجته كما عن له أن يطرحها وذهب الشعب المصري (صاحب الحق والقرار في هذه البلاد لمن لم يعد يتذكر) يوم الاستفتاء ليقف في أطول طوابير التصويت في تاريخه كله ويدلي بقوله الفصل في الأمر والذي علمنا يوم 20 مارس أنه بالموافقة على التعديلات الدستورية بأغلبية ساحقة. وبالتالي الموافقة على خارطة الطريق التي اقترحتها لعبور المرحلة الانتقالية والتي تقضي بانتخابات برلمانية ثم رئاسية يعقبها جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد.
ما الذي تنتظره من رجل طالما قدم نفسه بل ورأيته بنفسك أحد أهم دعاة التغيير نحو الديمقراطية ونحو حق الشعب في أن يختار مصيره؟
هل تنتظر منه أن يقول لك أن رأيك ورأي أبيك ورأي أهلك ورأي غالبية المصريين ليس ذو قيمة؟ وأنك لست صاحب القرار في بلدك وأن عليك أن تذهب وتلقي إرادتك وإرادة ملايين المصريين في أقرب صفيحة قمامه لأنها لا توافق هوى حضرة صاحب "الرؤية" ؟!
كانت تلك وما زالت أكبر صدماتي في الرجل ومواقفه على الإطلاق ، لم تمض أيام قليلة على إعلان نتيجة الاستفتاء حتى زقزق الرجل من جديد بأنه لا بد من وضع الدستور أولاً ، تمسك الرجل بموقفه وضغطه هو ومعسكره على الأرض بكل قوة لتنفيذ مساره الذي اختاره والذي قرر أنه يجب أن يمر عبر كتابة الدستور أولاً قبل إجراء أي انتخابات ضارباً بأصوات الناس عرض الحائط. تحدث الرجل بهذا علناَ وطالب به صراحةً بل دعم وحرض على مظاهرات واعتصامات تهدف لتحقيق هذا المطلب والانقلاب على إرادة الشعب، ك.نحن لا وزن لنا إذا ولا رأي طالما تعارض رأينا مع رأي صاحب نوبل والرؤية الثاقبة!
شككني يوماً أحد أكثر أصدقائي تحمساً للبرادعي في كون أن الرجل كان يحاول فرض رأيه علينا وأفهمني أن الأمر لا يعدوا أن يكون مجرد نوع من الثبات على المبدأ دون المطالبة بتطبيقه فعلا فعدت بنفسي إلى زقزقات الرجل عبر تويتر لكي أراه بأم عيني يكتب مطالباً بالدستور أولاً بعد نتيجة الاستفتاء بأيام قليله وكأن شعباً لم يتخذ قراراً. وهي عموماً كانت حجة واهية لأن الذين يحترمون إرادة الشعب وكانوا على نفس موقفه قبل الاستفتاء قالوها صراحة وبوضوح عقب النتيجة (كان موقفنا قبل الاستفتاء أن يكون الدستور أولاً ولكن الآن نحن مع أن تنفذ إرادة الشعب بأن تكون الانتخابات أولاً) وكان من هؤلاء المتسقين مع أنفسهم ومع إيمانهم بحق الشعب في تقرير مصيره (مثالاً لا حصراً عمرو حمزاوي وعبدالمنعم أبو الفتوح)
وعندما لم يبد أن الضغط في هذا الاتجاه يؤتي المرجو منه ابتدع لنا الرجل من ضمن المبتدعين وثيقته للمبادئ فوق الدستورية (أو المبادئ الأساسية) التي من المفترض أن تكون غير قابلة للتغيير أو التعديل وهو ما كان أيضاً صادماً بكل مقياس فلم أتصور بالضبط من يظن نفسه ذلك الشخص (أو الأشخاص والأحزاب) الغير منتخبين الذين يقررون بأنفسهم أن يضعوا مبادئ لدستور الشعب المصري لا يملك هذا الشعب أن يغيرها!
يعلم أغلب الناس مسارات الأحداث بعد ذلك وكيف أن هذا التجاذب والصراع السياسي (الغير منطقي) وفر الغطاء للمجلس العسكري ليؤجل الانتخابات بأقصى ما يستطيع ويطيل المرحلة الانتقالية بما نجم عن ذلك من خسائر وطنية في الأرواح والأموال والأمن.
وخــــــــــــتــــــــــامـــــــــــاً
عزمت على كتابة هذه التدوينه منذ أعلن البرادعي الانسحاب من السباق الرئاسي وكنت أنوي أن أتضمنها نظرة أكثر عمقاً في الرجل وظاهرته و برؤيتي عنه (وطنيا - مفكرا – مناضلا – سياسياً - مرشحاً).
ولكنني بعد تفكير قررت أن تقييمي لتاريخ الرجل أو طبيعة أدواره المهنية أو السياسية ليس مهماً لأن موقفي الحاد منه كان مبنياً على أداء ومواقف محدده ولربما تغير كثيراً لو اختلفت هذه المواقف. أما تقديري للرجل مهنياً أو سياسياً فهو أغنى عن ما قد يطويه من مدح وأرفع عن ما قد يحويه من قدح.
يظل الرجل رغم كل العتاب والمآخذ أحد القامات المصرية العالية في الديبلوماسية والقانون الدوليين وأحد من صدحوا بالحق في وجه الظلم ووقفوا في مواجهة النظام فاتحاً باباً للأمل وقت أن دب اليأس في نفوس كثيرين. وسيظل دائماً أحد العقول المصرية البارزه التي يجب أن نستأنس برأيها وفكرها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
أسأل الله أن يغفر لي ما قد أكون تجاوزت به عليه أو على مريديه متشدداً فيما رأيته تفريطاً في الحقوق او اجتراءً عليها معتذراً بأنني لم أطق أبداً أن نستبدل فرعوناً بآخر أو صنماً بوثن راجياً من كل صديق أن لا يعلق أمله أبداً بأحد غير الله. وأن يجعل ثقته بعد الله في الشعب وإرادته الجمعية لا بشخص مهما كان. خاصةً وقد لمست انتشار ما كنت أمقت وجوده في أنصار البرادعي - من حالة الدروشه والتعلق بالأشخاص بشكل يكاد يكون مطلقاً – بين أنصار مرشحين آخرين منهم من أسانده بالفعل وأرجو الله أن لا يكون ذلك مستقراً في الوجدان لخطر ذلك على مستقبل تمسك الشعب بحقوقه في وجه حاكميه
هل سيغير ما كتبته من رأي أحد أو هل سيقرأه أحد؟ لا أظن أنه سيغير كثيراً من الانطباعات والمواقف المسبقة لكنني فقط أبرأ بما أكتب إلى الله.
وأخيراً أتطلع أن يأتي اليوم الذي تعود فيه أشد خلافاتنا عصبية هي تلك المتعلقة بالأهلي والزمالك وبمن كان يحظى بمحاباة الحكم و أسأل الله أن يؤلف بين قلوبنا وأن يهدينا بعد انتهاء غبار كل معاركنا السياسية هذه إلى أن نعامل بعضنا بعضاً كعمل يوسف مع إخوته إذ قال لهم لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الرحمين
وأخيراً أتطلع أن يأتي اليوم الذي تعود فيه أشد خلافاتنا عصبية هي تلك المتعلقة بالأهلي والزمالك وبمن كان يحظى بمحاباة الحكم و أسأل الله أن يؤلف بين قلوبنا وأن يهدينا بعد انتهاء غبار كل معاركنا السياسية هذه إلى أن نعامل بعضنا بعضاً كعمل يوسف مع إخوته إذ قال لهم لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الرحمين
هذا ، وعلى الله قصد السبيل،
عبدالرحمن عبدالودود، مدينة الشيخ زايد، 23 مارس، العام الثاني للثورة