أما بعد حمد الله ، فلست مخفيا إحباطي الشديد وأنا أكتب تعليقي على المسودة
الأخيرة للدستور التي خرجت من الجمعية التأسيسية حتى أنني كدت أن أتراجع عن
كتابتها غير ذي مرة بعد أن كدت أن أفقد الأمل في أن يقرأ أحد شيئاً أو أن تتغير
قناعة أحد بناء على ما قرأ، لذلك فأكتب اليوم براءة لذمتي أمام الله فقط ولست
راجياً نتيجة من وراء ما أكتب.
سأبدأ الحديث بالموضوع الأهم والأعلى قدراً عندي في مواد الدستور والمتعلق
بمكانة الشريعة منها وعلاقتها بنصوصه المختلفة
وكانت كلمات محمد شرف الدين عن الموضوع قد أثارت شجوني وأحزاني واستدعت
عاطفتي لرفض الحل الوسط الحالي لكنني
اضطررت أن أجاهد نفسي لكي أطرح الموضوع في إطاره العقلي المبني على الواقع.
ويمكن الإطلاع على كلماته تلك عبر الرابط التالي
وسأبدأ حديثي أولاً بنقل جزء مما اقتبسه شرف من الدكتور إياد القتيبي
"
لو أن العرب والعجم والإنس والجن والأبيض والأصفر والأسود والأسمر وأصحاب المؤلفات والإجازات والأسانيد والمشهود لهم بالصلاح والتقوى والعلم والزهد والإخلاص، لو أن هؤلاء جميعا أقروا هذا الدستور من باب (أخف الضررين) أو (المصالح والمفاسد) أو (التوافق ودرء الفتنة) أو (السياسة الشرعية) أو (الحكمة في التعامل مع الواقع) لقلنا بعد ذلك:
هذا الدستور فيه مواد لا توافق الشريعة، ولا تستلهم فلسفتها ونظامها بالكامل، وذلك لا يجعله من الأصل يقال عنه أنه دستور "يقيم شرع الله" أو يمثل "حقيقة الشريعة" . ويجب البراءة منه، وهي مسألة قطعية لا تقبل الخلاف. وليقل من شاء بعد ذلك ما شاء. ولن يكون كلام أي احد من العلماء جميعا إجماعا حجة على الإسلام، فالحق أحق أن يتبع، فالدستور لا يقيم الشرع كما أنزله الله بل هو ملئ بالشركيات وما يخالف شرع الله ضمنيا أو صراحة. (الكلام مقتبس بتصرف وتعديلات خاصة من الدكتور اياد القتيبي( " انتهى النقل.
لو أن العرب والعجم والإنس والجن والأبيض والأصفر والأسود والأسمر وأصحاب المؤلفات والإجازات والأسانيد والمشهود لهم بالصلاح والتقوى والعلم والزهد والإخلاص، لو أن هؤلاء جميعا أقروا هذا الدستور من باب (أخف الضررين) أو (المصالح والمفاسد) أو (التوافق ودرء الفتنة) أو (السياسة الشرعية) أو (الحكمة في التعامل مع الواقع) لقلنا بعد ذلك:
هذا الدستور فيه مواد لا توافق الشريعة، ولا تستلهم فلسفتها ونظامها بالكامل، وذلك لا يجعله من الأصل يقال عنه أنه دستور "يقيم شرع الله" أو يمثل "حقيقة الشريعة" . ويجب البراءة منه، وهي مسألة قطعية لا تقبل الخلاف. وليقل من شاء بعد ذلك ما شاء. ولن يكون كلام أي احد من العلماء جميعا إجماعا حجة على الإسلام، فالحق أحق أن يتبع، فالدستور لا يقيم الشرع كما أنزله الله بل هو ملئ بالشركيات وما يخالف شرع الله ضمنيا أو صراحة. (الكلام مقتبس بتصرف وتعديلات خاصة من الدكتور اياد القتيبي( " انتهى النقل.
الموقف الذي يتبناه شرف تتبناه العديد من تجمعات الإسلاميين الذين نثق في
إخلاصهم ولا نزكيهم على الله، أذكر منها حركة أحرار وشباب حازمون والجبهة السلفية
والتيار الإسلامي العام.
أول ما يجب أن نبتدئ به هو الإقرار بصحة هذا الواقع فلا يجب لنا أبداً أن
ندلس على الناس في عقيدتهم بما يجعلنا شركاء في تضليلهم عن نقاء التوحيد وصفاء
العقيدة. ولابد لنا ولكل مسلم واع بعقيدته وشريعته من الاعتراف بأن مسودة المشروع
النهائية لا ترقى أبداً إلى ما نرتضيه من هيمنة تامة لشريعة ربنا وحكمه على
الدستور كاملاًً بداية من فلسفته مروراً بنصوص مواده التي وجب أن تنبع كلها من
شريعة الإسلام مبادئها وأحكامها ومقاصدها.
ويجب أن نقر بأن السياسيين الإسلاميين في سبيل مساعيهم لتجنب الصدام
والتوافق مع القوى العلمانية ومن ورائها العسكر وقضاتهم وإعلامهم لتمرير المرحلة
الانتقالية بأقل الخسائر تنازلوا بشكل كبير في أمر الشريعة، وقد بدأ ذلك أولاً منذ
تشكيل الجمعية.
لكننا يجب أيضاً أن نقر بأننا لسنا ممن يبتغ الفتنة ويخالف الدستور
والقانون، فالدساتير والقوانين السابقة كانت كلها أسوأ من المشروع الحالي فيما خص
الشريعة ولم يمنعنا هذا أن نتعايش معها واقعاً وإن أنكرناها بقلوبنا وألسنتنا ما
استطعنا.
إن الطرح الذي يقدمه إخواننا، وإن كان حقاً، إلا أنه مغترب عن الواقع ، وهو
يليق بنا إن كنا نكتب دستورنا في نفس الوقت الذي كتب فيه الأمريكيون دستورهم، حين
كانت البلاد حرة من الاحتلال وحين كنا سنكتب في فراغ معتمدين على عقيدتنا وشريعتنا
فقط دون أن يكون هناك (تراث دستوري) مبني على تاريخ من الصراع وموازين القوة
المادية.
نحن اليوم لا نكتب دستورنا ونحن على رقعة شطرنج لم تبدأ عليها اللعبة بعد، ولكننا على رقعة جرى ترتيبها منذ زمن ، وقد خسرنا فيها الكثير والكثير من القطع، بل لا أبالغ حين أقول أن الجيل الحالي دخل إلى اللعبة بينما الفريق الإسلامي تحت ضغط رهيب و يقال له (كش ملك)
ذلك أن إخواننا كلهم يعلمون تماماً أننا منذ دخلت خيول نابليون الأزهر وحتى
اليوم تحت الاحتلال. بل تحت الاحتلالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية
والفكرية. وقد تمكن الاحتلال (الجاهليُ
بطبعه) منا حتى صار بين أظهرنا وفي شوارعنا وبيوتنا بل وقلوبنا، لا أستثني
من ذلك أحداً ولا نفسي إلا من رحمه الله واصطفاه.
وهذا الاحتلال قد تمكن منا ومن بلادنا إلى درجة جعلت معاركنا التي نخوضها
لنيل حريتنا من احتلالنا وخضوع رقابنا للناس بأن نخضعها لرب الناس تدور مع إخوتنا
وأهلينا وبني جلدتنا بل وأنفسنا.
وارى أن تشكيل الجمعية التأسيسية الأخير كان المعبر الأصدق عن الوضع الحالي
لموازين القوة بيننا وبين الاحتلال، التعادل، ذلك بأنه ورغم أن تشكيل الجمعية
الأولى (رغم ملاحظاتي عليه) كان هو الأقرب إلى رسم خريطة التفضيلات الشعبية إلا
أنه لم يكن المعبر الأصدق عن موازين القوة. فقوى الاحتلال العلماني للبلاد وإن
كانت هي الأقلية شعبياً إلا أن امتلاكها للشوكة المالية والإعلامية والقضائية
والأمنية والعسكرية جعلها في وضع متوازن تقريباً مع القوى الإسلامية التي تحظى
بالأغلبية الشعبية. لذلك لم يكن أبداً مستغرباً أن يكون ممثلي مؤسسات الدولة
الحكومية والأمنية والقضائية والعسكرية بل وحتى الدينية جزئاً من النصف المحسوب على
القوى العلمانية (يجب أن نتوقف عن الانسياق وراء المصطلحات الإعلامية ونسمي
الأشياء بأسمائها الحقيقية، هم علمانيون وليسوا مدنيون).
إذن، في ضوء موقع الشريعة الباهت والمهتز بهذا الدستور، وفي ضوء المواد 2 و
4 و219 ، ما هو الحكم على هذا المشروع فيما خص الشريعة؟
الإجابة: هو ليس ما نطمح إليه ولكنه خطوة إلى الأمام. تتناسب مع ظروف
الواقع ومع ما يعلمه كل منا من ضرورة أن يكون العمل على إعادة المجتمع إلى الشريعة
تدريجياً حتى تطمئن لها قلوب الناس وعقولهم وجوارحهم وأعمالهم.
كيف ذلك؟ يجب أن نتذكر الوضع الدستوري للشريعة وقت قيام الثورة وعقبها
جيداً، كانت المادة الثانية بصياغتها الحالية التي لم تتغير مادة ديكورية تماماً، ليس هذا فحسب بل إن التحرش بها والرغبة في
إنهائها كان هدفاً واضحاً للنخبة العلمانية، ما بين تصريح عمرو حمزاوي بأنها مادة
تمييزية ، وانتقاد محمد البرادعي واستنكاره أن يكون للدولة دين، وصولاً إلى الطلب
الرسمي من أسامة الغزالي حرب من المجلس العسكري يوم 19 فبراير عقب التنحي وبصفته
رئيساً لحزب الجبهة الديمقراطية آنذاك إلغاء المادة الثانية وهو ما فتح الباب
الأول للمواجهة الإسلامية-العلمانية.
ثم لما كان رد الفعل القوي من الإسلاميين ، تم تغيير الاستراتيجية لاعتبار
المادة الثانية خارج الخلاف وأنها محل إجماع وطني وفي نفس الوقت التركيز بنعومة
على لفظة "مبادئ الشريعة" وتفسيرها بما هو مؤداه أنها المبادئ المجمع
عليها من الإنسانية كلها, حتى تظن أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو القرآن وأن
منظمة العفو الدولية هي هيئة كبار العلماء وأن الإنسان بعد الموت سيحاسب أمام مجلس
الأمن عن عمله بالقانون الدولي وليس أمام الله عن عمله بالقرآن والسنة!
والحقيقة أن الأمر لا علاقة له بالألفاظ نفسها بقدر علاقته بالأدبيات والمفاهيم والممارسات التي ارتبطت بها سياسياً. فأنا ممن هم مقتنعون
برأي المستشار طارق البشري أن مجرد النص على أن "الإسلام دين الدولة"
كفيل بجعل كل تشريعاتها وأنظمتها نابعة من شريعة الإسلام لكن كيف يكون ذلك ولم
يطبق ذلك فعلياً في تاريخنا الدستوري بل وهناك من قومنا من يصرون على تحجيم مواد
الشريعة وإفراغها من مضمونها؟
وتم ترسيخ هذه المفاهيم بقوة حتى أنني أذكر أن تعليق أحد شباب حزب الدستور
على إضافة المادة المفسرة للمبادئ في الدستور (كده بقت الشريعة كلها) كأنه يعلم
تماماً الهدف من التركيز على لفظة "مبادئ" كما تم محاربة وجود أي مؤسسة دستورية مرتبطة
بالشريعة بحيث تكون الإحالة في تفسير المبادئ لمؤسسات علمانية تماماً كالمحكمة
الدستورية والتي لدى قضاتها أدبيات مكتوبة فعلاً تفرغ المادة من مضمونها تماماً.
الذي حدث في المشروع المطروح ببساطة هو إفشال الاستراتيجية المتبناه
بالتأكيد على إحالة المبادئ إلى أصولها الشرعية والفقهية الإسلامية أولاً وبوضع
دستوري يؤكد على أن الأزهر (كهيئة علمية فقهية بتراث من العلم الشرعي الإسلامي) هو
المنوط به تفسير الشريعة وإبداء الرأي فيها وليس أية مؤسسات أخرى مبنية على فلسفة
وثقافة القانون الوضعي الفرانكوفوني.
وهذا يعني أن المعارك القادمة من أجل تمكين
الشريعة في المجتمع يجب أن تقوم في ساحة الشريعة بأدواتها وأسلحتها الفقهية
والأصولية وليس في ساحات القوانين الدولية والفرانكوفونية التي أرادت قوى الاحتلال
العلماني أن تفرض علينا خوضها بها.
ومن المؤكد أن كل إسلامي يدرك أن معركة
المحكمة الدستورية القادمة في سبيل التمكين للشريعة ستكون مفصلية من أجل إزالة
العقبات المؤسسية التي تعرقل أي تقدم في هذا الإطار.
لكن سيظل التحدي الأكبر والأهم والأصعب خلال
السنوات القادمة هو تحدي القلوب والعقول والجوارح التي ضللت حتى صارت معادية
للشريعة و جزءاً من مشاريع مناوئة لتمكينها في المجتمع, فبهؤلاء يقوم الدين وتعلو
رايته.
اللهم اهدنا واهد أهلنا وقومنا إلى دينك الحق
وارفع بنا رايته وأتمم علينا نعمتك بفضل شريعتك.
هذا وعلى الله قصد السبيل،
عبدالرحمن عبدالودود، مدينة الشيخ زايد، 3
ديسمبر، العام الثاني للثورة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق