عن الدين والسياسة والديمقراطية والعلمانية والمواطنة والليبرالية نتحدث
عبدالرحمن بتاع الإخوان، هذا هو اسم الشهرة الجديد الذي أعطاه لي عدد من زملائي بالعمل بعد حملتي قبيل الإستفتاء على التعديلات الدستورية التي كانت تدفع لتأييد التعديلات بما يتماهى مع موقف عموم فصائل التيار الإسلامي في مصروهو ما جعلني بشكل تلقائي إخوانياً قديماً وعتيداً عند أئمة رفض التعديلات المتشككين . لا بأس فمعظمهم لم يختلط بي كثيراً بشكل شخصي ، ثم كلمني واحد ثاني (من الإخوان هذه المره) ليحييني على نشاطاتي مع الجماعة في مسقط رأسي!! واضح أنني أخطر مما كنت أعرف إذاً!!
ثم كانت ثالثة الأثافي حين هاتفني صديقي الصدوق والعزيز ، الذئب العاطفي الشهير بطارق يسري ليبلغني كم هو مغتاظ من السلفيين ويصارحني برغبته أن يوجه لي لكمتين بصفتي ممثلهم الأول من وجهة نظره!! يبدوا أن الأمر أخطر مما أتصور فالرجل يعرفني بما فيه الكفاية وبما أنه شخصياً وصل لهذا الاستنتاج فلا بد أن له ظلاً من الحقيقة.
بدأت أشعر بشيء من الفخر بقدراتي المخابراتية العالية التي يغار منها أدهم صبري ورأفت الهجان معاً بعد أن نجحت في إخفاء انتمائي التنظيمي الإخواني والسلفي عن أبي وأمي وزوجتي وإخوتي وأصدقائي فضلاً عن كل أجهزة المخابرات العالمية والمحلية والمهلبية قبل أن أستيقظ من النوم متأخراً كالعادة لأكتشف أنني كالعادة أيضاً لم أصل الفجر في معاده. وهكذا عدت إلى الواقع الذي يبدو منه أن قدراتي الدينية لا تزيد كثيراً عن قدراتي المخابراتية. ويمكن قياسهما معاً بقدراتي في عمل الملوخية!! وجميع من ذاق طبق الملوخية من صنعي يعلم تماماً ما أتحدث عنه.
لا بد إذا من تفسير ما، إذا كنت لست منضوياً تحت لواء أي من هذه التيارات الدينية ، الدعوية أو السياسية فما سر هذا الحماس لهم والدفاع عنهم ؟؟
لا أنكر أنني أكن إعجاباً خاصاً ل (تنظيم) الإخوان المسلمين، ينبع من تقديري للكفاءة والفعالية عند مقارنتهما بالعجز والكسل وتقديمي للمنظمين عل الفوضويين وللأذكياء على الأغبياء وللمضحين على المستسهلين و للناجحين على الفاشلين وللأهلي على الزمالك، لكن هذا ليس مقام هذه المقارنة حيث تحتاج سياقاً أخر لذا سأركز هاهنا على الأفكار.
لا أجد خيراً من البيت الشهير للإمام الشافعي ليعبر عن حالي هاهنا ، مع الفارق الرهيب طبعاَ بين واقع الحالين، فقد كان الشافعي يقوله تواضعاً فيما أقوله أنا واقعاً
أحـب الصالحيـن ولسـت منهـم
لعلـي أن أنـال بـهـم شفـاعـة
وأكـره مـن تجارتـه المعاصـي
ولـو كنـا سـواء فـي البضاعـة
حسناً ، من قال أن هؤلاء هم الصالحون؟ لا أحد، إن كل واحد منا يحكم على العالم منطلقاً من أفكاره وقناعاته وعليه فيقترب من الأفراد والجماعات بناءً على هذه الأفكار. و عليه تجد الليبراليين يقتربون من بعض و الإشتراكيين من بعض والإسلاميين كذلك.
لذلك وفيما يلي سأحاول عرض فهمي لكل من المفاهيم الموجودة بالعنوان والتي أظن أنه ، بشكل أو بأخر، القاعدة الفكرية الأساسية التي ينطلق منها أغلب التيار الإسلامي، في مصر على الأقل.
من المؤسف أن كل ما سأكتب عنه هنا أراه بديهياً تماماً ولا يحتاج إلى شرح، ولكن الحقيقة أنك لا يمكن أن تدافع عن نسق فكري متكامل دون أن تكون قد وضحت أساسه المبدأي بشكل لا لبس فيه، لتعلم أصل القناعات والاستنتاجات و سبب هذه التجمعات والتوجهات السياسية.
أولا ً: عن الدين
لن أضيع كثيرا من الوقت في التنظير وسأدخل في الموضوع مباشرة ، سنتكلم هنا عن الإسلام وما ينطبق عليه هاهنا يمكن القياس عليه لأي دين أو أيديولوجيا موجهة لأفعال الإنسان.
السؤال الأول الذي يجب أن أسأله لنفسي ويسأله كل من يسمي نفسه مسلماً هاهنا هو (هل أنا مسلم حقاً؟ هل أنا مؤمن بالإسلام ديناً؟ هل إيماني هذا ينطبق عليه التعريف النبوي (الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل)؟
إن الأمر لا علاقة له إطلاقاً بما هو مكتوب في خانة الديانة ببطاقتي أو شهادة الميلاد التي استصدرها أبي، بل هو مرتبط بالقناعات الحقيقية، فلا يمكن لأي إنسان سويّ أن تكون لديه قناعة معينة ويبني اختياراته العملية عكس هذه القناعة.
لا أتحدث هنا عن الضعف البشري الذي نتعرض له جميعاً فنقع فيما نؤمن بخطأه أو نزل عن الطريق الذي نراه قويماً. إنما أتحدث عن الإختيار الواعي الذي ندافع عنه وندفع باتجاهة ونعمل على أن يكون أساساً للحد الفاصل بين الخطأ والصواب في النظام العام بحياتنا. بمعنى أكثر بساطة ، ربما أنا لست أكثر الناس التزاماً بالصواب لضعفي البشري مثل الأخرين، ولكني لا يمكن أبداً أن أدافع عن الخطأ وأدعو له. على سبيل المثال: أنا لست أكثر الناس التزاماً بغسيل أسناني بالفرشاة مثلاً ، ولكنني لا يمكنني أن أسمح لإبني ألا يلتزم بغسيل أسنانه يومياً أو أن أنصحه بعكس ذلك طالما أنني مقتنع بضرورة وصحة الإلتزام بغسيل الأسنان و هكذا.
إذن هل أنا مسلم حقاً ؟ هل أؤمن بوجود إله خالق؟ هل أؤمن أنه واحد لا شريك له؟ هل أؤمن أن الله هو هذا الإله وأنه أرسل لي الرسل لكي أتبعهم؟ هل أؤمن أنه ختم هؤلاء الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرأن وألهمه السنة ليكونا لنا هدياً وشريعة؟
لا أعتقد أن كثيرا ممن سيقرأون هذا الكلام يختلفون على أن الإجابة يجب أن تكون ب (نعم) عن كل ما سبق من أسئلة ليسمي المرء منا نفسه مسلماً.
حسناً، كيف تنظر إلى القرأن والسنة؟ ، هل تعتقد أن علاقتك بالتشريع المنزل من الله يمكن أن تكون مثل علاقتك بأوامر مديرك في العمل أو شقيقك الأكبر مثلاً؟ فتناقشه وتعدله أو ترفضه حسبما ترى
أعرف واحداً فعل ذلك. فقد أمره ربه أن يسجد لمخلوق من جنس غير جنسه فرفض ذلك مستخدماً حقه في إعمال إرادته الحرة (وهو مبدأ ليبرالي أصيل) ولم يكن رفضه هذا دون مبرر (من وجهة نظره) التي عبر عنها صراحةً حين رأى أنه خير من هذا المخلوق حيث أنه مخلوق من نار في حين أن الأخير مخلوق من طين. هل يبدو اسم (إبليس) مألوفاً لديك؟ لا يمكن لأحد أن يتهم إبليس بأنه لا يؤمن بوجود الله و بوحدانيته ولكنه استحق اللعن عندما رفض أوامر ربه.
كيف تنظر إلى رسالة الإسلام التي أرسلها الله إليك؟ هل تعتقد أنها معنونة ب (أضف إلى معلوماتك) أو (FYI) مثلاً؟! أم أنها رسالة ملزمة يجب أن تتصرف على أساسها في كل ما حددته من شرائع؟ أعتقد أننا يجب أن نقرأ الرسالة هنا لنعرف الحقيقة.
يقول تعالى في سورة الذاريات: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)
ويقول سبحانه في سورة الأنعام: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
إن فلسفة الإسلام واضحة تماماً حتى في إسمه، إنه دين يقوم على أن حياة الإنسان كلها من مهده إلى لحده طريقٌ إلى الله ولا يجب أن يعمل الإنسان عملاً في هذا الطريق مخالف لما شرعه له ربه الذي يتوجه إليه لأنه في النهاية سيخضع للحساب عن كل خطوةٍ خطاها خلال طريقه هذا.
أنا هنا سأضع الافتراض أنني أحكم بنفسي حكماً مطلقاً لا يراجعني فيه أحد غير الله ، هل يمكنني أن أدعي الإيمان بالله ثم أتخذ قرارات أو أشرع شرائع أو أحكم أحكام تخالف ما أنا موقن تماماً أنه أمر من ربي؟ فيقول القرأن لي بنص صريح أن أقطع يد السارق (وهو المثال الذي سأستحضره في ما بقي من هذه المقالة – على سبيل المثال حتى لا أتلقى الردود المعتاده عن اختزال الإسلام في الحدود) ثم أتي أنا و أسن قانوناً يقضي بمعاقبة السارق بالحبس أو الجلد أو حتى الإعدام. هل تعتقد أنني يمكن أن أقول لربي يوم الحساب (عفواً يا الله ، لقد كان لي وجهة نظر أخرى غير حكمك!)؟
وطبعاً هناك فارق شاسع بين الاجتهاد في كيفية تطبيق النص (مثلما أوقف عمر رضي الله عنه حد السرقة في عام الرمادة) والاجتهاد في كيفية تعطيل النص مثلما يهدف أغلب من يوردون المثال السابق عند الحديث عن الحدود. فمثلاً أنا لا أرى أي اجتهاد شرعي في الدنيا يمكن أن يعفي عصابة بورتو طرة من حد قطع يد السارق لو كان مطبقاً فلا هم فقراء ولا ما سرقوه يسير ولا البلاد كانت في مجاعة!
لقد تحدث القرأن بصراحة وقطعية حيال الحكم بغير ما شرعه الله بل وأنبأنا عن من يجادلون في حدود الله اليوم ووصفهم وحكم عليهم وفيما يلي بعض من الآيات التي وردت في هذا السياق وعلى كل من يريد ان يستزيد الرجوع للمصحف.
سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
سورة المائدة: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
سورة النور: لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
لا أرى داعياً لمزيد من التوضيح تحت باب الدين هاهنا ، الأمور أوضح من أن تحتاج لشرح، فلننتقل إلى السياسة إذاً
ثانياً: عن السياسة
سنلجأ إلى التبسيط ، السياسة هي فن إدارة شئون الدول وقيادة الشعوب لتحقيق السعادة لهذه الشعوب التي يقودها الساسة.
هل بهذا المفهوم يمكن فصل الدين بأي حال عن العمل السياسي؟ هل يمكن ان يكون شعب ما سعيداً وهو يحكم بسياسات أو قوانين تتناقض جذرياً مع معتقداته التي تشكل له تصوره لحياته كلها؟
يكمن التناقض الجذري بين الإسلاميين والعلمانيين في كون الفريق الأخير يعرف السياسة من منطلق غربي-مادي بحت، بمعنى أنهم يرون أن السياسة هي فن إدارة الصراعات (الداخلية و الخارجية) لتحقيق (المصالح)، فتكون السياسة الداخلية هي صراع بين أطراف العمل السياسي للوصول إلى السلطة (لتحقيق أجندة هذه الأطراف المصلحية) أي أن الرأسماليين يسعون للسلطة لتحقيق مصالح أصحاب رأس المال على حساب الطبقات الأكثر فقراً و الإشتراكيين يسعون إليها لتحقيق مصالح العمال والفلاحين على حساب أصحاب الأموال. و كذلك تكون السياسة الخارجية صراع لتحقيق المصالح المادية الخارجية للدولة على حساب دول أخرى. وبما أن السياسة في هذه الحالة مبنية على استهداف مصالح مادية دنيوية بالأساس فهي يجب أن تكون بالمرونة اللازمة لاستهداف (المصلحة) ولا يجب قيدها بأي قيد ثابت أو مطلق كمنظومة القيم الدينية.
وغني عن الذكر أن الإسلاميين يختلفون مع الطرح السابق من منطلق مبدأي، لأن ما يحقق مصلحتي المادية في الدنيا لا يتطابق بالضرورة مع ما يحقق لي السعادة بمعناها الشامل حين يقوض الهدف الأسمى الذي أتصوره لحياتي.
نعم يجب أن ننزه الدين عن الصراع السياسي ولا يجب أن يكون أداة للتحزب أو التنافس السياسي، ولكن هذا لن يتحقق إلا بعد أن يصل المجتمع (كله أو أغلبيته الساحقة) إلى قناعة تامة بأنه لا يحق لأي طرف سياسي فاعل أن يسن قوانين أو ينفذ قرارات أو يصدر أحكام أو يتخذ إجراءات تتعارض بشكل صادم مع مبادئ أو أحكام الشريعة الإسلامية الصريحة. أي ببساطة دولة إسلامية في مجتمع إسلامي. كل أحزابها الفاعلة تؤمن بالمرجعية الإسلامية للدولة وتختلف في الوسائل والسياسات التي تحقق للدولة والشعب المصالح المادية دون أن تصطدم مع قيمه العليا.
وبشكل أخر ، يمكن في الدولة الإسلامية لفريقين أن يختلفا في تفسير النص أو في أسلوب تطبيقه ، لكن لا يمكن لأحدهما أن يتجاوز النص كأنه غير موجود أو أن يعترض على استلهامه عند التشريع (على أساس أنه لا دين في السياسة). يمكننا أن نختلف على الشروط والإجراءات الواجبة لإثبات جريمة السرقة ، وأن نختلف في وسيلة تنفيذ العقوبة ، لكننا لا يمكننا أن حين أن نختار طبيعة تلك العقوبة أن ندعي الإسلام لله ثم نخالف نصاً قرآنياً صريحاً يقول: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
حسناً كيف نصل إلى هذه الدولة الإسلامية؟ لذلك طريقين متوازيين الدعوي والسياسي.
أما عن الدعوي فغني عن الذكر أنه كلما اتسعت القاعدة العامة للمتدينين في المجتمع وهؤلاء الذين يدركون مدى وجوب أن تتفق كل قوانين وسياسات الدولة مع الشريعة ومقاصدها كلما زاد ذلك من تفعيل سلطة الإسلام على الأداء السياسي.
أما عن السياسي فببساطة يجب تكرار تجربة الإستفتاء على التعديلات الدستورية الأخير مرات ومرات حتى يصل كل السياسيين إلى قناعة تامة أنه لا يمكن لأحد أن يحكم هذا الشعب برضاه متجاوزاً لأحكام الإسلام.
ويمكن لأي متابع مدقق أن يلاحظ التغيير في التصريحات وأسلوب الخطاب الذي يصدره مرشحوا الرئاسة والقيادات الحزبية القديمة والجديدة حول المادة الثانية من الدستور والهوية الإسلامية بعد أن صدمتهم حقيقة الواقع السياسي عندما لم تستطع كل التيارات العلمانية (ناصرية وليبرالية ويسارية) مساندةً بأغلبية القوة التصويتية القبطية حشد أكثر من 23% من الأصوات نحو اختيارها السياسي.
وتكرار تجربة الاستفتاء سيصل بجميع من يريد ممارسة السياسة في مصر إلى القناعة بأنك إذا أردت أن تكون فاعلاً في السياسة المصرية ، لك أن تتبنى أي رؤى وسياسات تراها طالما أنها لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها (والمرجعية هنا في مدى هذا التوافق أغلبية الشعب لا جهة بعينها حيث لا كهنوت في الإسلام)
وبما أننا وصلنا في حديثنا لذكر أغلبية الشعب فلننتقل بحديثنا إذاً إلى الديمقراطية
ثالثاً: عن الديمقراطية
هي حكم الشعب نفسه عن طريق ممثليه المنتخبين. هذا هو الأمر ببساطة.
يقع كثير من العلمانيين والإسلاميين كثيراً في خطأ تصور أن هناك تناقضاً مبدأياً بين حكم الشريعة (أو حكم الله) و الحكم الديمقراطي (حكم الشعب).
ويمكن إزالة سوء الفهم هذا ببساطة حين نوضح أن الله لا يحكم في الأرض بنفسه ولكنه يحكم عن طريق خليفته في الأرض (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وهذا الخليفة ليس شخصاً بعينه أو جنساً إنما كان هذا الخليفة أدم عليه السلام، وورث عنه خلافته هذه كل بنيه ، فكل إنسان على الأرض مستخلف فيها من قبل الله تعالى.
والخليفة الذي يحكم بحكم الله في الأرض هنا هو (الحاكم المسلم) و لا يحق لهذا الحاكم أن يحكم بحكم الإسلام إلا في (المجتمع الإسلامي) والذي سنعرفه هنا بالمجتمع الذي يؤمن بتحكيم التشريع الإسلامي في الشؤون العامة بغض النظر عن انتماءات أفراده الدينية.
فإن لم يكن هذا المجتمع إسلامياً فلا مجال لتطبيق حكم الإسلام هاهنا لأن الحكم في الإسلام بالبيعة (الإنتخاب الحر) لا بالإجبار ولن يختار مجتمع غير إسلامي في غالبيته حاكماً مسلماً يريد أن يحكم بالإسلام.
إذن ، إذا ما توفرت في المجتمع أغلبية من المؤمنين بالإسلام (كعقيدة وكشريعة وكدولة) صار هذا المجتمع إسلامياً وصار من حق أغلبيته الديمقراطية تلك أن تختار من يمثلها وفق ما تراه من شريعة ويحكمها كما تشاء.
أما إن لم تتوافر تلك الأغلبية ، سواءً كان هذا ابتداءً في مرحلة تأسيسية مثل التي نعيشها أو في مرحلة لاحقة على تأسيس الحكم الإسلامي (نتيجة لتغير الإتجاه العام في المجتمع) ، انتفت عن المجتمع صفة (المجتمع الإسلامي) كما عرفناها. وهنا يحق لأغلبية المجتمع أن تختار من يحكمها وكيف يحكمها وفقاً لما تؤمن به في هذه اللحظة.
وعلى التيار الإسلامي ساعتها أن يعود إلى العمل الدعوي ليستعيد كفة الغالبية المجتمعية المؤمنة بالإختيار الإسلامي في الحكم ليقوم المجتمع الإسلامي من جديد.
أما فرض أي اختيار فكري معين في نظام الحكم ومبادئه على المجتمع دون أن يكون له أغلبية مجتمعية (سواء كان إسلامياً أو علمانياً) فلا أعتقد أن أحداً يظن أن هذا له أي علاقة من قريب أو بعيد بالديمقراطية.
رابعاً: عن العلمانية
لا كهنوت في الإسلام.
تلخص الجملة السابقة كل ما أريد أن أقوله هنا ، لكنه من الأسف أن الإنسان يضطر لتوضيح البديهيات كثيراً هذه الأيام.
تحظى العلمانية باسم (دلع) جديد في مصر هذه الأيام وهو (الدولة المدنية) ابتدعه أصحابه بعد أن حظي المصطلح الأصلي بقدر لا بأس به من سوء السمعة، رغم أن كلمة العلمانية هي الأخرى تجميل لأصل المصطلح الأجنبي والذي يعني (دنيوية أو لا دينية).
نشأت العلمانية أصلاً في أوروبا لفصل (المؤسسة الدينية) عن الدولة والسياسة وتحريرهما من نير الاستبداد الديني. وذلك نابع أساسا من وضع الكنيسة في الديانة المسيحية (خاصةً الكنيسة الكاثوليكية) فالكنيسة هي (المؤسسة الدينية المتحدثة باسم الرب) ورجالها هم (رجال الدين). والكنيسة بتركيبها مؤسسة هرمية لا ديمقراطية تتركز كل القوة فيها بيد شخص واحد (البابا) وتخضع له في كل قراراتها.
وبما أن البابا وكل رجاله بشر ، يخطئون ويصيبون، لكنهم لا يملكون ترف التراجع عن الأخطاء أو تصحيحها بسهولة (لأن الذي يتحدث باسم الله لا يمكن ولا يجب أن يخطئ) ، فقد كان من المستحيل على أوروبا أن تتحرر وتتقدم دون أن تتخلص من سلطان (مؤسسة الدين) هذا.
من الجلي لكل مسلم أنه لا وجود في الإسلام لما يمكن أن يسمى (مؤسسة الدين) ولا لمن يمكن أن نصفهم ب (رجال الدين) فقد كان أخر (رجل دين) مسلم يتحدث على الأرض باسم الله هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا قداسة في الإسلام لأحد ، إنما القداسة للنصوص (القرأن والسنة) ولكل مسلم أن يجتهد في فهم هذه النصوص و تطبيقها بقدر ما يستطيع وعليه لا (مؤسسة دين) يجب فصلها عن الدولة.
أما محاولة تطوير العلمانية لتصبح فصل الدين نفسه عن الدولة والسياسة فهذا عمل عبثي لا يمكن أن يحدث إلا في أحد مجتمعين، مجتمع دكتاتوري قمعي لا يأبه لاختيارات مواطنيه او مجتمع من مرضى الفصام ، لأن الناس لا يمكن أن تبني اختياراتها بمعزل عن قناعاتها وأفكارها. ولا وجود لمثل هذا الوضع في أي دولة ديمقراطية في العالم ، ولن يتسع المقام هنا لذكر الأمثلة الكثيرة لتأثيرات الدين في توجيه السياسة في كل الدول الديمقراطية في العالم.
اما عن السبب الذي جعل هذه السياسات المبنية على قناعات دينية معينة لا تبدو ظاهرة بشكل مهيمنً في أي من تلك الدول الغربية فذلك مرجعه أصلاً لأن أصحاب هذه الاتجاهات لا يمثلون الأغلبية في المجتمعات الغربية نتيجةً لتراجع التدين في كثير من هذه المجتمعات. وعندما مالت كفة الأغلبية نحو تيارات سياسية تستلهم مرجعية الدين لم تجد هذه الدول غضاضة أن تترجم هذا الميل إلى سياسات واضحة (كما رأينا جميعاً في فترة حكم جورج بوش الإبن بالولايات المتحدة)
ومن غير المعقول أن تسمح الدولة لي أن أدافع عن فكرة وأسعى لتطبيقها في السياسة إن أنا كنت قد استقيتها من كتاب ل (ديكارت) أو (نيتشه) وتحظر علي ذلك إن كنت استقيتها من القرآن!
خامساً: عن المواطنة
عندما كانت التيارات الإسلامية تنادي إلى تحكيم الشريعة الإسلامية في المجتمع أو حتى منحها الحرية للعمل على إقامة الدولة الإسلامية، كانت الأقلية العلمانية الحاكمة تتحجج بأسطورة من صنعها عن استحالة حدوث ذلك في مصر لوجود الأقلية المسيحية!
وظل النظام الحاكم وإعلامه ينفخ في هذه الأسطورة يوماً بعد يوم حتى استقرفي وعي عوام المسلمين المتدينين أن الذي يحول بينهم وبين إعمال شريعتهم في مجتمعهم هو وجود الأقباط!
ثم استمر النظام في نفخ الأسطورة يوماً بعد يوم حتى استقر في وجدان عوام المسيحيين أن صعود التيارات الإسلامية للحكم يعني استئصالهم من البلاد أو اضطهادهم الممنهج على أحسن تقدير!
واستغل النظام في حملة التخويف والتفريق تلك جهل عوام المسلمين ، فضلاً عن المسيحيين، بمصطلحات التراث الإسلامي المرتبطة بالمسيحيين وجوهر معانيها (مثل النصارى و الجزية والذمة والردة) وانطلق أرباب العلمانية ليعطوا هذه الكلمات ظلالاً سفليةً مخيفة توشي بمصيرمروع!
وهو ما سأفرد له لاحقاً تدوينة خاصة بتلك المصطلحات لازالة كل لبس شائع حولها (حسب فهمي والله أعلم).
أولاً ،هناك حقيقة يبدوا أن الجميع يغفل عنها ، ليس على أجندة الإسلام و المسلمين إطلاقاً ولم تكن يوماً على أجندتهم فكرة محاولة (استئصال أو تطفيش) الأقليات الدينية من بلاد الإسلام. فلو كان ذلك موجوداً من قريب أو بعيد لما بقي في مصر شخص واحد من غير المسلمين ولفعل ذلك من رجال الإسلام من كانوا أكثر منا قوة وقدرة (يوم أن كانت دولتهم القوة العظمى الوحيدة والممتدة من الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً في عالم لم تكن الأمريكتين واستراليا جزء منه) ومن كانوا خيراً منا تديناً حين كان يحكمنا عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص أو صلاح الدين الأيوبي الذي كان رئيس أركان حرب جيشه مسيحياً. ذلك أن مبدأ حرية الاعتقاد أصل من أصول الدين (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ،،، (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) ،،، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)
ثانياً، المواطنون في الدولة الإسلامية أسوياء في الحقوق والواجبات حتى إن كانوا غير مسلمين ، فهم يدفعون الضرائب (كانت تسمى قديماً بالجزية) ويستحقون الخدمات المادية والاجتماعية التي توفرها الدولة من عائد هذه الضرائب (أعفى عمر يهودياً مسناً من دفع الجزية و فرض له معاشاً من بيت المال ومن هو في مثل حالته).
وهم متساوون في كافة الحقوق المدنية في المعاملات المالية والقضائية وغيرها (وقف علي وهو أمير المؤمنين أمام القاضي شريح بن الحارث يختصم يهودياً في في درع كانت له عنده وحكم القاضي لصالح اليهودي لعدم وجود دليل مادي عند علي) وطبعاً نعلم كلنا القصة الشهيرة عن كيف اقتص عمر رضي الله عنه لقبطي مصري من ابن عمرو بن العاص وهو يومها والي مصر.
ثالثاً، يخطئ من يتصور أن النظام العلماني سيكون أفضل وأعدل مع الأقلية الدينية من النظام الإسلامي، بل على العكس تماماً فالنظام العلماني لا يضع اعتباراً للخصوصيات الدينية للطوائف الدينية اطلاقاً عند اتخاذ القرارات السياسية أو التشريعية ( وأكبر مثال على ذلك أن التشريعات القانونية الغربية لا تضع أي اعتبار لشرائع الأقليات المسلمة في الأحوال الشخصية مثلاً ولا يحق للمسلم الغربي أن يتزوج أكثر من زوجة مثلاً رغم أن دينه يبيح له ذلك)
بل على العكس تماماً ، إن اتبعنا نظاماً علمانياً في التشريع لا يضع اعتباراً لمرجعية الدين فلا يمكن أن يتم وضع خصوصيات قانونية للطوائف على أساس ديني وبناءً عليه فقد نجد يوماً من يسن قانوناً يسمح للرجل أن يتزوج 7 نساء مثلاً بغض النظر عن دينه، فيهدر الدينين معًا ، أو أن يسن قانوناً يسمح بزواج المثليين فيهدر شريعة الطائفتين. أو أن تأتي أغلبية برلمانية ممن تقتنع بالشريعة الإسلامية فتضع قانون أحوال شخصية مستوحى من الشريعة (يسمح بتعدد الزوجات) ويتم تطبيقه على الجميع بغض النظر عن دينهم فنحن دولة قانونية علمانية لا تفرقة بين مواطنيها على أساس الدين.
أما الشريعة الإسلامية فحق كل طائفة أن تتحاكم إلى تشريعاتها مبدأ أصيل من مبادئها (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ) ولم يخطر يوماً على بال أعتى عتاة المتطرفين الإسلاميين أن يجبر المسيحيين على التحاكم بعكس ما تنص شرائعهم.
ماذا عن تطبيق الشريعة في مجتمع به أقلية مسيحية كمجتمعنا؟ ، ذلك ينقسم على حالين:
أولاً: أن يكون التشريع غير متعارض مع حكم أصلي في شريعتهم ، وهو الحال الأغلب لأن التشريعات المسيحية ليست ملمة أو مفصلة كأحكام الشريعة الإسلامية ، ومثال على ذلك (عقوبة قطع يد السارق في قانون العقوبات)، سيناقش المسيحيون هذا القانون كما يناقش المسلمون قانون المرور أو أي قانون أخر لم يرد فيه نص قاطع، وسينقسمون إلى ثلاثة أقسام، قسم سيوافق عليه و أخر سيرفضه ويراه قاسياً وقسم سيرفضه ويراه متساهلاً (في الصين يعدمون المختلسين مثلاً) وفي النهاية يخضع القانون لرؤية غالبية المجتمع ككل (بمسلميه ومسيحييه)
ثانيا:ً أن يكون التشريع متعارضاً مع حكم أصلي في شريعتهم ، كقوانين الأحوال الشخصية مثلاً وفي هذه الحالة يحق لهم أن يسنوا القانون المستمد من شريعتهم.
ترى أي فلسفة قانونية هي أكثر إنصافاً للأقليات الدينية وحرياتهم في ممارسة دينهم وشرائعهم وبالتالي تحقيق مواطنتهم ؟ تلك العلمانية أم الإسلامية؟
أخيراً: عن الليبرالية
يمكن تعريف الليبرالية بأنها حق الأقلية (أو الفرد) في الحماية من تغول الأغلبية
يرى خصوم التيار الإسلامي أن صعود هذا التيار فيه خطر على الليبرالية السياسية والإعلامية والشخصية وفيما يلي تفنيد ذلك
أما عن الليبرالية السياسية: فقد وضحنا سابقاً أن الحكم في الإسلام ليس جبرياً أو قدرياً إنما يكون بالانتخاب الحر، وحق المواطنين في نقد الحكام ومعارضتهم ومحاسبتهم بل ومحاكمتهم وأيضاً في تبني رؤى سياسية مخالفة لنظام الحكم بالكامل حق أصيل في الإسلام وسيضيق المقام هنا عن أن أورد عشرات الأمثلة لكل ذلك في عهد الخلفاء الراشدين.
أما عن الليبرالية الإعلامية: بمضمونها من حرية التعبير فغني عن الذكر أن لكل مجتمع الحق في أن يحدد الحدود الفاصلة بين المسموح والممنوع في الأداء الإعلامي العام (في فرنسا يحق لك أن تسب المسيح أو أن تنكر وجوده لكن لا يحق لك أن تسب او أن تنكر الصهيونية أو الهولوكوست!)
أما عن الليبرالية الشخصية: أيضاً لكل مجتمع أن يضع الحدود الفاصلة بين ما هو مسموح وممنوع في السلوك الشخصي وأن يحدد موضع تلك الحدود ، ففي الحريات الجنسية مثلاً تقف تلك الحريات في الغرب عند ممارسة الجنس مع الأطفال ، ويسمح بما دون ذلك من حريات وليس هناك ما يقول أن الحد المقبول عند مجتمع ما يكون مقبولاً لدى مجتمع أخر، ولا توجد أي دولة في العالم تمنح مواطنيها الحق في تعاطي الكوكايين مثلاً رغم أنه سلوك شخصي تماماً مثله مثل شرب الخمر!
ألا قد بلغت، اللهم فاشهد
هذا وعلى الله قصد السبيل، عبدالرحمن عبدالودود ، مدينة الشيخ زايد، عام الثورة