الثلاثاء، 24 أبريل 2012

عن الأغلـبية والأقلـية ،،، التـوافق والإقصـاء ،،، والدسـاتير وسنينها



الدساتير لا تضعها الأغلبية  المتغيرة، البرلمانات لا تكتب الدستور ، الدستور يكتب بالتوافق، الدستور يجب أن يعبر عن "الجميع" دون إقصاء و لم يحدث بأي دولة في العالم أن وضعت الأغلبية المؤقتة الدستور
هذه طبعا كلها صارت بديهيات ومسلمات لا مراء فيها عند كل مصري يقرأ الصحف ويتابع الإعلام منذ ما قبل استفتاء التعديلات الدستورية في مارس 2011 وأصبحت مخالفتها نوعاً من التجديف أو الهرطقة الفكرية والسياسية.



إلا أنه وبما أني من المهرطقين فيما ينشره أهل الإعلام من دين رأيت وقد احتدمت المعركة حول تشكيل الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور مستندة إلى الأساطير التي بدأت بها هذه التدوينه قررت أن أمارس تجديفي هذا في دين النخبة الإعلامية والثقافية المصرية كالعادة.

ولن تعني محاولتي لرد تلك الأباطيل أبداً رضاي التام عن المعايير أو السرعة أو التشكيل النهائي الذي تم تكوين الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور المصري (لأن لي تحفظات محدده على كل ذلك) ولكن اعتراضي ينصب أساسا على أمرين، أولهما الدفوع التي تستخدم ضد الجمعية التأسيسية والمبنية على فرضيات وجوب انفصالها عن شكل وطبيعة الأغلبية البرلمانية المنتخبة وثانيهما الدفوع ضد أحقية الأغلبية البرلمانية المطلقة في تشكيل الجمعية التأسيسية وفق ما تراه ملائماً.

وقبل أن أشرع في الحديث عن الدساتير، أريد أن أؤكد أن الدساتير على أهميتها ليست سوى نصوص ورقية تكمن قوتها الوحيدة في مدى إيمان الشعوب بها ومدى استعدادهم للتضحية دفاعاً عنها لذلك فالواقع الشعبي وموازين القوى على الأرض أقوى دائماً من أي نصوص دستورية، والأمثلة على ذلك كثيرة فالمملكة المتحدة أقدم ديمقراطيات العالم ليس لديها دستور مكتوب، ومسألة قصر ترشح الرئيس على مدتين فقط في الولايات المتحدة ليس سوى تقليد سنه جورج واشنطن دون نص دستوري (وقد خالفه روزفلت بالترشح لأربع فترات متتالية لظروف الكساد والحرب العالمية الثانية) كما أن الدستور المصري السابق لم يكن أبداً ينص في أي بند من بنوده على حق النظام في تزوير الانتخابات أو تعذيب المعارضين (بل على العكس تماما) ورغم ذلك فإن التزوير والتعذيب لم يتوقفا قط في ظله. وأيضاً لم ينظم الدستور أبداً تخلي الرئيس عن الحكم استجابة لثورة شعبية لكنه فعلها رغماً عن أنفه وأنف دستوره.

وبعد أن أمارس هرطقتي تلك على المستوى العقلي سأتبعها باستقراء تاريخي لعملية وضع وتعديل الدستور الأمريكي وما نتج عنها من تطورات وتضاغطات وتعديلات داخل الولايات المتحدة وفي الدستور

أولاً: الأغلبية لا تضع الدستور

كلما حاولت أن أعرض هذه الفرضية على عقلي الذي خلقه الله اصطدمت بأي تمرين عقلي بسيط أحاول فيه أن أتصور طريقاً عملياً وحيداً لإنفاذ هذا المبدأ وصارت الفكرة هباءً منثورا سواءً فيما خص نصوص الدستور نفسها أو فيما خص تكوين اللجنة أو الجمعية التي تكتب هذه النصوص.
ذلك أن العبد لله، لم يعلم أبداً عن دستور واحد لأي دولة من دول العالم في أي حقبة من حقب التاريخ قد حظي بإجماع جميع مواطنيها

وحتى في الدول الديكتاتورية التاريخ مثلما كنا، لم يجرؤ نظام عاقل أبداً أن يزور نتيجة استفتاء دستوري ليعلن الموافقة على الدستور بالإجماع وكان يتوقف دائماً عند ال 99% الشهيرة، وعملياً في أي دولة ديمقراطية تعد الموافقة في أي استفتاء بنسبة تتجاوز الثلثين اكتساحاً تصويتياً نادراً.

تعالوا معي إلى هذا التمرين العقلي الافتراضي باستخدام المنطق البسيط، هل يمكن بطريقة ما أن نشكل جمعية تأسيسية من 100 عضو تعبر عن جميع أحزاب وطوائف وفئات المجتمع بشكل متساو دون اعتبارات الأغلبية والأقلية؟ وهل يمكن تجاوز هذا الاعتبار بعد التشكيل؟ وهل يمكن كذلك تجاوزه عند التصويت على مشروع الدستور في الاستفتاء العام؟

وفكروا أولاً في هذه الأفكار:

هل تعلم أن مصر بها 26 نقابة مهنية وعدد أكبر كثيرا من النقابات العمالية الرسمية منها والمستقلة، فضلاً عن اتحادات الصناعات والغرف التجارية والسياحية؟ هل تعلم أن مصر بها 12 جامعة حكومية على الأقل بها عدد ضخم من الكليات والتخصصات ويتوزع منتسبوها بين الطلبة وأعضاء هيئات التدريس؟ هل تعلم أن مصر بها 27 محافظة؟ هل تعلم أن ما قد يعتبره البعض أقلية أو فئة خاصة أو مهمشة في مصر يضم النساء والشباب والأقباط والمعاقين والصعايدة والفلاحين والنوبيين وبدو سيناء ومطروح والواحات؟

هل تعلم أن مجموع الأحزاب الرسمية المصرية حوالي 50 حزباً أو أكثر؟ وهل تعلم أن عدد الأحزاب التي نجحت منها في الوصول إلى مقاعد البرلمان لا يتجاوز ال21 حزباً؟ وبناء عليه فإننا في معرض التمثيل السياسي الحزبي إن حاولنا تطبيق مبدأ التمثيل المتكافئ للأحزاب في الجمعية التأسيسية دون اعتبار لما حققته من أصوات خلال الانتخابات البرلمانية سنجد أن الأحزاب الغير ممثلة في البرلمان يجب أن تحوز مقاعد في الجمعية التأسيسية أكثر من تلك المنتخبة من الشعب!

هل تعلم أن أغلب قيادات الهيئات المفترض بها أن تمثل في جمعية تأسيسية هي قيادات "منتخبة" داخل هيئاتها وبالتالي حصلت على ثقة "أغلبية" أعضاء هذه الهيئات لا إجماعهم؟ وبالتالي فإن هناك أقلية داخل هذه الهيئات كان لها رأي أو تصور أو اتجاه آخر لن يمثل داخل الجمعية التأسيسية. وعلى سبيل المثال فإن نقيب المهندسين فاز بالمنصب محققاً نسبة 50,45% من مجموع الأصوات الصحيحة مما يعني أن "أقلية" مقدارها 49,55% من المهندسين اختارت آخر أو آخرين ليعبر عنها؟

حسناً، كيف يمكن أن تتخذ هذه الجمعية قراراتها في التصويت على مواد الدستور؟

دعنا نفترض أننا بمعجزة ما نجحنا في تمثيل كل ما يمكن حصره من تيارات سياسية أوفئات مجتمعية داخل الجمعية التأسيسية (التي لا تتجاوز 100 عضو) على قدم المساواة، هل سيتطلب إقرار كل مادة من مواد الدستور إجماع جميع أعضاء الجمعية التأسيسية؟ أم أن التصويت سيكون بالأغلبية بدرجاتها؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يتساوى صوت ممثل حزب كالحرية والعدالة حصل على ثقة أكثر من عشرة ملايين من المصريين بصوت حزب الأحرار الذي فشل في أن يحصل على ثقة أي مصري! بمعنى واضح،، طالما أن الجمعية ستلجأ في أعمالها للتصويت وحسم خلافاتها حول الدستور بأغلبية الأصوات،، كيف يمكن أن تكون تركيبة الاتجاهات السياسية والفكرية داخل الجمعية مغايرة لأوزان هذه الاتجاهات داخل المجتمع ؟

لنتجاوز هذه المعضلة ونفترض أننا بمعجزة ما نجحنا في كتابة مشروع للدستور يحظى بإجماع الأعضاء ال100 في الجمعية التأسيسية وتم عرضه على استفتاء عام شارك به عشرون مليوناَ من المصريين، ما هي أعلى نسبة موافقة يمكن أن نتوقعها على مشروع الدستور؟ إن 99% نسبة خيالية ولكنني سأفترضها على سبيل التمرين العقلي. هل تعلم ما معنى هذا؟ إنه يعني أن 200 ألف مواطن مصري قد رفضوا هذا الدستور بأكمله، فهل يطعن ذلك في شرعية الدستور أو في حجيته على الدولة و المجتمع؟ بالطبع لا.
فقل لي إذا، ما هو السبب الذي يجعل من أصوات وقيمة 100 مصري أهم من أصوات وقيمة 200 ألف مصري آخر؟ أم أن غرض التوافق المزعوم مطلوب فقط لصالح نخبة معينة عالية الصوت لديها النفوذ والوصول إلى الإعلام بغض النظر عن الوزن الاجتماعي الحقيقي الذي تمثله تلك النخبة؟
الحقيقة أن المنطق يقول لنا دائماً أنه لم ولا ولن يوجد دستور في أي بلد بالعالم يحظى بإجماع المواطنين في هذا البلد ولذلك فإن الدساتير شئنا أم أبينا توضع بالأغلبية لأنه دائماً وأبداً ما توجد أقلية رافضة له وكل ما نستطيع فعله في هذا الإطار هو توسيع الأغلبية المتقبلة للدستور قدر ما نستطيع وتضييق الأغلبية الرافضة

ثانياً: الأغلبية متغيرة والدساتير ثابتة

 وهي فرضية نصف حقيقية فبالفعل الأغلبيات متغيرة وليست ثابتة ولكن من قال أن الدساتير عمل جامد ثابت لا يتغير هو الآخر؟
الدستور الأمريكي وهو من الدساتير القصيرة أهم جزء فيه هو ما أضيف إليه من تعديلات (وهي سبعة وعشرين تعديلاً) منها عشرة تعديلات تمت بعد إصداره بنحو أربع سنوات فيما سمي (وثيقة الحقوق Bill of Rights) وفرنسا شهدت خمسة جمهوريات بخمسة دساتير مختلفة منذ الثورة واستمر فيها دستور الجمهورية الرابعة ما لا يزيد عن اثني عشر عاماً وحتى مصر كتبت ما يقرب من ثمانية دساتير خلال تسعين عاماً كان أهمها دستور 23 ودستور 54 الذي لم ير النور أبدا ودستور 71. وحتى ذلك الأخير الذي كان يسمى بالدستور "الدائم" شهد تعديلات على عشرات المواد أعوام 1980 و2005 و2007.

كل ما هنالك أنه ولكي يكون هناك شكل من أشكال الاستقرار في النظام السياسي جرت التقاليد أن تتطلب عمليات كتابة الدساتير (أو تعديلها) أغلبيات كبيرة خاصة (أغلبية الثلثين في أغلب الأحوال) لأن الأغلبية المطلقة العادية (51%) يسهل أن تتغير إن تغيرت التركيبة السياسية ل 2% فقط من الممثلين المنتخبين للشعب.

وطبعاً كلما زادت نسبة الأغلبية المؤيدة لمشروع الدستور كلما زاد ذلك من استقرار النظام السياسي الذي يبنيه الدستور لكن الوصول لإجماع حول الدستور هو أمر مستحيل كما أن ثبات الدستور أمر مستحيل لاستحالة ثبات الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي في أي مجتمع اللهم إلا في المقابر!

وحتى إن أذعنا عقولنا لفكرة تغير الأغلبية وتوجهاتها الرئيسية فإن هذا المنطق ينسحب حتى على الإجماع! فإن افترضنا اجماع رأي الشعب على دستور اليوم ، ما الذي يحول دون تغير التوجه العام بعد بضع سنين أو بضع شهور إلى اتجاه آخر؟ فكما يمكن أن يغير عشرون مليوناً من المصريين رأيهم في الدستور يمكن أن يغير خمسون مليوناً أيضاً رأيهم فيه!

ثالثاً: البرلمانات لا تضع الدساتير

ترتكز هذه الفرضية على أن البرلمانات هي أحد السلطات التي ينظمها ويؤسس لها الدستور  وبالتالي لا يصح له أن يتحكم في الدستور الذي يؤسس له صلاحياته، وهذا مردود عليه

أولاً: لأن أعضاء البرلمان ليسوا أعضاء مؤبدين في مواقعهم ولكنهم يتغيرون بعد كل دورة برلمانية وليس من المنطق أن تسعى الأغلبية البرلمانية لمنح البرلمان صلاحيات دستورية مبالغ فيها على حساب المؤسسات الأخرى في حين أنها قد تضحى بعد فترة انتخابية واحدة أقلية برلمانية أو تضحى في سدة الرئاسة وخصومها يسيطرون على البرلمان.

ثانياً: أن كل المؤسسات والهيئات التي يمكنها أو يفترض أن تشارك أو تؤثر في كتابة الدستور هي أيضاً من مؤسسات الدولة التي ينظم لها الدستور أوضاعها وصلاحياتها وما ينطبق على البرلمان ينطبق عليها إلا أن البرلمان في حالتنا يتميز عن ما سواه بهيئة ناخبين تبلغ 50 مليون مصري شارك منهم 30 مليون في انتخابه وحسب ما نعلم فإن أكبر مشاركة في انتخابات النقابات المهنية كانت بنقابة المهندسين والتي شارك بها مائة ألف ناخب.
وعالمياً كتب دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة لجنة عينها رئيس الجمهورية المنتخب بهدف إنهاء حقبة نظام الحكم البرلماني للجمهورية الرابعة وغني عن الذكر أن مؤسسة الرئاسة أيضاً مؤسسة من مؤسسات الدولة التي ينظمها الدستور.

ثالثاً: أن أهم خاصية يجب أن تتوفر فيمن يتولى عملية كتابة الدستور هي أن يكون ممثلاً منتخباً من الشعب. فما هو الفارق الجوهري بين جمعية تأسيسية منتخبة مباشرة من الشعب وبين برلمان منتخب عدا الإسم؟ الفارق الوحيد هو معرفة الناخبين عند ذهابهم لانتخاب الجمعية التأسيسية أنهم يفوضونها في كتابة الدستور (ربما بدون استفتاء الشعب أصلاً كما في الحالة التونسية) وهو أمر متحقق في حالتنا لأنه كان معلوماً منذ نتيجة استفتاء مارس أن أول برلمان سيكون مفوضاً في اختيار الجمعية التأسيسية التي ستكتب الدستور.

رابعاً: أنه عالمياً لدى أغلب البرلمانات الديمقراطية سلطة تعديل أو كتابة الدستور بأغلبيات خاصة ، والدستور الألماني كتبه البوندستاج كما أن التعديلات ال 27 التي أضيفت للدستور الأمريكي والتي تشكل أهم أجزائه بإجماع خبراء الدساتير تمت بواسطة الكونجرس.

رابعاً: الدساتير تكتب بالتوافق

"التوافق" هي الكلمة السحرية التي طالما أتحفنا بها النخبويون المصريون العظام دون أن يعطينا أحدهم تعريفاً محدداً وواضحاً لها لندرك عن ماذا يتحدث وماذا يريد.

لذا سأحاول هنا أن اقترب من الفكرة كما أراها وكما أفهمها وصولاً لتصور واضح حول كنه المصطلح.
مرادف الكلمة بالانجليزية (Consensus) و حسب وكيبيديا فهي آلية مطاطة من آليات اتخاذ القرار تتراوح قاعدة اتخاذ القرار بها من اشتراط الإجماع حتى تفويض شخص مسئول بالقرار متضمنة أيضاً قاعدة الأغلبية الكبيرة بمستوياتها المختلفة (من60 % حتى 90%).

لكن  ما يميز التوافق حقاً عن التصويت الطبيعي هو الحق في النقاش والمشاركة في ابداء الرأي واتخاذ القرار لجميع الأطراف وصولاً إلى قرارات مقبولة من الجميع أو إلى حلول وسط ما كان ذلك ممكناً.
هذا الحوار هو ما يجعل الأطراف المختلفة تتقبل متطلبات بعضها البعض و تتفهم هواجس بعضها البعض، فتحاول الوصول إلى نقاط اتفاق حول ما لا يمكن التنازل عنه وما يمكن التفاوض بشأنه. وصولاً إلى الحد الأدنى من القبول العام (تقبل ما لا تتبناه، التعايش مع ما تختلف معه، وتفهم ما ترفضه).

إذن، ما يتطلبه صناعة دستور توافقي من آليات لاتخاذ القرار حول صياغة مواده يمكن تلخيصه وتبسيطه في الآتي:

أولاً: الحوار وإبداء الرأي في الموضوع لكل طرف من الأطراف هو مفتاح فكرة التوافق ، غلق باب المناقشة في الموضوع دون أن يتاح لكل فرد في المجموعة المنوط بها صنع القرار إبداء رأيه وتصوراته هو أول ما ينفي عن آلية اتخاذ القرار أنها توافقية.

ثانياً: محاولة الوصول إلى ما هو مشترك بين جميع الأطراف وتثبيته في الدستور والابتعاد عن نقاط الخلاف التي يمكن عدم التطرق لها في الدستور وإحالتها إلى القوانين (وهو سلاح ذو حدين)

ثالثاً: محاولة الوصول إلى تسويات وحلول وسط بقدر الإمكان في المواضيع المختلف عليها

رابعاً: تأمين أغلبية كبيرة (لا تقل عن الثلثين) في اتخاذ القرارات التي لم يمكن الوصول فيها إلى نقاط اتفاق.

وغني عن الذكر أن كل هذه المتطلبات (فيما عدى الرابع) غير مرتبطه بنسبة تمثيل أي طرف في الجمعية التأسيسية فلو أن حزباً ما له ممثل واحد فقط في الجمعية وجب أن يتاح له كل الفرصه للتعبير عن رأي ومتطلبات وأفكار كل من يمثلهم، وأي جمعية تأسيسية من بديهياتها وجود لجان استماع تسمح لكل مواطن قد لا يرى في أعضائها من يمثله بشكل كامل بأن يشارك في عملية صناعة القرار بخصوص مواد الدستور.
أما المطالبة بتمثيل أطراف أو اتجاهات بالجمعية التأسيسية بأوزان تخالف الواقع السياسي والمجتمعي فلا علاقة لها بالتوافق، لأن الوصول إلى التوافق يأتي عبر حوار تقتنع خلاله الأغلبية بالحلول الوسط المستهدفه لا أن يتم فرض اختيارات ما عليها نخبوياً أو سلطوياً.

وحتى عندما لا توجد إمكانية الاجماع أو الوصول إلى حلول وسط فيما هو مختلف عليه (وحينها نلجأ للتصويت وحسم اختيارات الأغلبية) فإن النقاش الموسع والمستفيض الذي يسبق التصويت يكون كاشفاُ للمواقف المجتمعية المختلفة ولطبيعة التناقض الذي سيشكله هذا الاختيار الدستوري مع بعض الفئات المجتمعية مما يمهد للتعامل مع هذه التناقضات وتلافي آثارها السلبية على التماسك السياسي والاجتماعي للدولة في المستقبل.

خامساً: الأغلبية ليست دائماً محقة

حينما تطرح فكرة أن الاتساق مع الديمقراطية يقتضي منا أن نخضع لحكم الأغلبية فيما لا يمكننا أن نصل فيه إلى اتفاقات أو حلول وسط غالباً ما تواجه بأسئلة من عينة (يعني هل من حق الأغلبية مثلاً أن تكتب دستوراً ينفي الأقباط؟) أو (معنى كلامك أن من حق فرنسا تمنع الحجاب؟) وهي أسئلة تهدف إلى إسقاط الحكم القيمي لصاحب السؤال على اتجاهات الأغلبية.
هذا الأسلوب في التفكير يفترض دائماً أن هناك إجماعاً بشرياً ما على كنه الحق والباطل، الصواب والخطأ وهو ليس صحيحاَ لأنه من المؤكد أن أي أغلبية في أي لحظة تاريخية تنحاز انحيازاً معيناً تكون مؤمنة بأن هذا الإنحياز هو عين الحق والصواب.
ولنوضح الفكرة ببساطة سنلجأ لتمرين عقلي على واقع فرنسي (قوانين فرنسا ضد الحجاب في المدارس والنقاب في الأماكن العامة)،، إن أغلبية الشعب الفرنسي تدعم هذه الإجراءات وتراها صواباً لأنها من انتخبت الحكومات التي مررتها.

أما وأننا نرى في لك ظلماً بيناً فإن نزع هذا الظلم لا يكون بفرض أوضاع قاهرة مضادة لما تراه هذه الأغلبية، ولكن ذلك يكون أولاً بالعمل على تغيير توجه تلك الأغلبية نحو ما نراه نحن صواباً سواءً تم ذلك عبر تغيير القناعات أو عبر الضغط السلمي، وغني عن الذكر أن هذه الآليات الديمقراطية في التغيير تحتاج سنيناً طويلة من العمل الدؤوب في تغيير الرأي العام  عبر الالتحام بالناس، وهو بذل لا يبدو أن نخبتنا مستعدة له بأي حال فترى أن يكون التغيير فوقياً ومفروضاً على جموع الناس.

الحقيقة هي أن أي دستور لن يخلوا أبداً من تناقضات مع توجهات فئات أو مجموعات ما داخل المجتمع، لكن نتيجة هذه التناقضات وآثارها السياسية والمجتمعية تتوقف على طبيعتها وشدتها ومدى اتساع تأثيرها ومدى إدراك الأطراف المختلفة لها ومدى قدرتها على احتوائها أو تعميقها.

وتتراوح تأثيرات هذه المتناقضات بين مشاعر من الاستياء بين عشرات الأشخاص يتم التعبير عنها بالطرق السلمية حتى بركان غضب عارم بين ملايين الأشخاص يعبر عن نفسه بحرب أهلية وانقسام في الدولة.
ولا يشترط أبداً أن تظهر نتيجة هذه التناقضات فورياً عند إقرارها (دستورياً أو قانونياً أو تنفيذياً)، لأن معظم الآثار التي تنتج عن هذه التناقضات تحتاج أعواماً وربما عقوداً طويله ليظهر أثرها في المجتمع.

ولكن أكبر ضمان لتفريغ أية أخطار مجتمعية أو صدامات محتملة نتيجة عن هذه التناقضات التزام جميع الأطراف بالآليات والضمانات الديمقراطية من حرية التعبير عن الرأي وحرية اختيار الحكومات عبر انتخابات شفافة ونزيهة وحرية تغييرها عبر ضمان دورية الإنتخابات. وإلتزام الجميع أيضاً بتقبل نتائج هذه الديمقراطية والخضوع لرأي الأغلبية المجتمعية الوقتية.

هذه الضمانات هي أكبر حام لاستقرار النظام السياسي وللسلم المجتمعي، لأن أقلية إسلامية غير راضية عن النظام السياسي ستظل تعمل تحت مظلته طالما يتيح لها الحق في محاولة تغيير المجتمع (عبر حرية التعبير عن الرأي) نحو توجهاتها ومن ثم تطبيق برامجها ومبادئها عندما تصل إلى الحكم بعد الحصول على تأييد أغلبية مجتمعية، وبالمثل ما دام النظام يتيح للاشتراكي أن يطبق اشتراكيته عند حصد الأغلبية وهكذا. فالديمقراطية تسمح لكل فئة اجتماعية بالتعبير عن مظالمها أو مطالبها أو رؤاها وبحشد المجتمع نحو التغيير الذي تراه ضرورياً وبالتالي تضمن أن تصحح نفسها بنفسها.

ويجب أن أذكر هنا تعبيراً قرأته على تويتر معناه أن وعي الشعوب يتطور مثل الأطفال، عبر الشعور باللسع مع التجربة، لذلك فإن تغيير اتجاهات الرأي العام من جهة لأخرى لا يكون إلا عبر خوض التجربة فعلاً وتقييم نتائجها بالأساس لا عبر المناظرات الإعلامية أو الثقافية. كان على الألمان أن ينتخبوا الحزب النازي لكي تقنعهم التجربة بالآثار الوخيمة للسياسات الفاشية وكان على الفرنسيين أن يعيشوا 12 عاماً من التخبط وعدم الاستقرار السياسي في ظل الجمهورية الرابعة ليعلموا أن النظام البرلماني الخالص غير مناسب لبلادهم. وهكذا كان تطور الديمقراطية دائماً وتصحيحها لنفسها عبر التجربة والخطأ.

ولكي لا يبدو كل ما سبق مجرد تمارين عقلية هوائية أردت أن أتمعن في تجربة من سبقونا إلى كتابة دساتير وبناء نظم ديمقراطية وكيف كانت تناقضاتهم وصراعاتهم  عبر النظر لتاريخ الدولة صاحبة أقدم دستور مكتوب في العالم منذ كتابة هذا الدستور وما واكب ذلك من تناقضات وآثارها المجتمعية والسياسية والدستورية.

ماذا فعل الآخرون بدساتيرهم ؟

كتب دستور الولايات المتحدة عندما اجتمع 55 ممثلا منتخباً عن اثني عشر من الولايات الأمريكية الثلاثة عشرفي ذلك الوقت في مؤتمر فيلادلفيا (بين 14 مايو حتى 17 سبتمبر من العام 1787) الذي كان معنياً أساسا بمراجعة بنود اتفاقية الكونفيدرالية التي كانت تحكم العلاقة بين الولايات وبين الكونجرس القاري الذي يمثلها وهي الاتفاقية التي خطها الكونجرس القاري عام 1777 بعد سنه واحده من إعلان الاستقلال واستغرق الأمر 4 سنوات أخرى ليتم التصديق عليها من الولايات وكانت هي بمثابة الدستور الأول لأمريكا بعد الاستقلال. إلا أن جيمس ماديسون وألكسندر هاميلتون وآخرين كانوا ينوون الدفع نحو تأسيس شكل جديد من الحكم الاتحادي لأمريكا وهو بدأ المناقشات التي نشأ عنها في النهاية دستور الولايات المتحدة وأسست لشكل الحكومة الفيدرالية الحالية.

وفي مؤتمر فيلادلفيا هذا مجموعة من الملاحظات والمفارقات المستحقة للتأمل:

الملاحظة الأولى تتعلق بأن مؤتمر فيلادلفيا (الجمعية التأسيسية الأمريكية) كان مكوناً من ممثلين منتخبين من الولايات، وكونهم منتخبين يعني بالضرورة أن كان لهم بين الناس مؤيدين (أغلبية) ومعارضين (أقلية).

الملاحظة الثانية أن أقلية إقليمية (هي ولاية رود أيلاند) رفضت المشاركة أصلاً في المؤتمر التأسيسي وقاطعته    

الملاحظة الثالثة أن مجموعة من أهم الآباء المؤسسين للولايات المتحدة (مثل توماس جيفرسون وجون أدامز وجون هانكوك وصامويل أدامز) غابوا عن المؤتمر ومنهم من توجه له بانتقادات حادة ومن تشكك في النوايا خلفه.

الملاحظة الرابعة أن من حضروا هذا المؤتمر هم جميعاً من رجال السياسة ولم يطالب أحد بأن يضموا إلى المصوتين أحداً من "الفقهاء الدستوريين" (تخيلوا أن الأمريكيين كتبوا دستورهم دون مشاركة نور فرحات وثروت بدوي وإبراهيم درويش وتهاني الجبالي ويحيى الجمل!) بل إن الرجل الذي كتب مسودة الدستور وصاغها بيده (جيمس ماديسون) لم يكن إلا سياسياً من فيرجينيا في سن ال36 لم يدرس القانون إلا على سبيل الإطلاع ولم يعمل به قط. وهؤلاء الساسة تولوا فيما بعد مناصب تنفيذية كبرى في الحكومة فرئيس المؤتمر (جورج واشنطن) أصبح أول رئيس للولايات المتحده وجيمس ماديسون كان الرئيس الرابع وتولى ألكسندر هاميلتون وزارة الخزانة الأمريكية.

الملاحظة الخامسة أن عدد الذين وقعوا على وثيقة الدستور بنهاية المناقشات لم يتجاوز 39 عضواً من أصل 55 مشاركاً في المؤتمر بأغلبية 70% (هل ترون تشابهاً ما؟) من الحاضرين وبلغ رفض الأقلية الحد الذي جعلهم يمتنعون عن التوقيع على الوثيقة الناتجة عن المناقشات، وحتى أغلب هؤلاء الذين وافقوا لم يكونوا راضين بشكل كامل عن النتيجة التي توصلوا إليها والتي تكونت عبر مجموعة من الحلول الوسط وقد عبر بنجامين فرانكلين عن رأيه في النتيجة الدستورية بقوله:

"There are several parts of this Constitution which I do not at present approve, but I am not sure I shall never approve them. ... I doubt too whether any other Convention we can obtain, may be able to make a better Constitution. ... It therefore astonishes me, Sir, to find this system approaching so near to perfection as it does; and I think it will astonish our enemies..."

"هناك أجزاء عديده من هذا الدستور لا أوافق عليها حالياً لكنني لست متأكدا انها لن تحظى أبداً بموافقتي، وأشك أيضاً أن يستطيع أي مؤتمر آخر نعقده أن يصنع دستوراً أفضل"

هذا فيما يتعلق بالشكل والإجراءات ونتائج التصويت فماذا عن ملاحظات ومفارقات وتناقضات المضمون؟

كان محور الخلاف الرئيسي الذي دار حوله الخلاف في مؤتمر فيلادلفيا هو الاستقطاب الذي حدث بين "الفيدراليين" الذين كانوا يهدفون إلى إنشاء حكومة مركزية موحدة وقوية وبين "اللا مركزيين" الذين سعوا للحفاظ على استقلال الولايات واستقلالية الفرد عن تدخل الحكومة في حياته أو في أمواله (وذلك مرجعه تاريخياً لأنهم كانوا مـتأثرين بروح ثورة الولايات الأمريكية على طغيان الحكم المركزي للامبراطورية البريطانية)، 
وهو استقطاب يمكن لمن يتابع السياسة الأمريكية بتمعن أن يدرك أنه ممتد حتى اليوم وترى أثره بوضوح في التناقض الدائم بين الديمقراطيين الذين يدعمون دائماً دوراً  اجتماعياً أكبر للحكومة في الإقتصاد وبين الجمهوريين الذين يسعون دائماً لتقليص تدخل الحكومة في الاقتصاد والمجتمع بكل سبيل وهو استقطاب معكوس الأقطاب فيما خص السلطة الأمنية للحكومة مقابل الحريات الفردية.

ومن أهم الهواجس التي كانت محفزة لتخوفات اللا مركزيين  خضوع الحكومة المركزية لنفوذ الولايات الكبيرة من حيث عدد السكان على حساب الولايات الصغيرة. ,وأيضاً معارضتهم لتأسيس جيش مركزي كبير وقوي يمكن أن يستخدم في قمع المواطنين أو إخضاع الولايات لقهر الحكومة المركزية.

فما هي الحلول الوسط والتسويات التي نتجت من تفاعل هذه الاستقطابات والتناقضات؟

أما عن التناقض بين الحكومة المركزية وحكومات الولايات فقد تم حله عبر تبني إنشاء غرفتين للكونجرس إحداهما (النواب) تمثل فيه كل ولاية بعدد من النواب يتناسب مع عدد سكانها والأخرى (الشيوخ) تمثل فيه جميع الولايات على قدم المساواة بنفس العدد من النواب (نائبين لكل ولاية).
كما نتج عنه نظام انتخاب رئيس الدولة الذي يقوم على أن تنتخب كل ولاية مجموعة من الممثلين في مجمع انتخابي يقومون بانتخاب رئيس الجمهورية، وهو النظام الذي بسببه يحسب المرشحون فرصهم في الفوز حسب الولايات المؤيدة لكل منهم لا حسب الناخبين (من النتائج الشهيرة لهذا النظام فوز جورج بوش الابن على آل جور في انتخابات عام 2000 في حين أن الأخير كان قد حصل على أكثرية أصوات أفراد الناخبين)

أما أمر الجيش المركزي القوي فقد تم حسمه بالتجربة التاريخية عندما دخلت أمريكا في مطلع القرن التاسع عشر نزاعات مسلحة مع فرنسا وبريطانيا وإسبانيا اضطرتها لدعم جيش مركزي كبير وقوي.

هذا عن الحلول، فماذا عن التناقضات؟

كان أكبر تناقض موجود بين الولايات وبعضها البعض أن عدداً من الولايات الأمريكية الجنوبية كانت تسمح وتنظم امتلاك العبيد الأفارقة لمواطنيها البيض، بالمخالفة لإعلان المبادئ الأمريكي المسمى (إعلان الاستقلال 1776) الذي نص على أن كل البشر سواسية. حتى أن من خط وثيقة الدستور الأمريكي (جيمس ماديسون) كان أحد هؤلاء السادة المالكين للعبيد. وهو تناقض يشي بأن الأمريكيين لم يكن بإمكانهم في ذلك الوقت التوحد حول قيمة إنسانية بسيطة مثل قيمة المساواة بأغلبية تتيح لهم إنشاء الدولة. مما أدى إلى استمرار وجود هذا التناقض في الدستور وأصبح هناك ولايات حرة وولايات عبودية.

ناهيك عن أن الآباء المؤسسين في أكبر دولة ديمقراطية منذ ذلك الوقت لم يجدوا ما يدفعهم لمنح النساء حقوقهن السياسية عند كتابة دستور بلادهم.

واستغرق الأمر نحو قرن من الزمان ليتحرر العبيد ونحو قرن آخر ليحصل الأفارقة الأمريكيون على حقوقهم المدنية والسياسية كاملة، أما النساء فلم يحصلن على حقوقهن السياسية إلا بعد مرور نحو قرن ونصف القرن من نشأة الولايات المتحدة الأمريكية.

كيف تفاعلت التناقضات؟

على العكس مما قد يتمناه البعض (وأنا منهم) فإن العبودية لم تنته في الولايات المتحدة عبر تغيير تثقيفي أو نصح قيمي من قبيل قول عمر (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟) ولكنها انتهت كنتيجة للتفاعل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الناتج عن وجودها.

كان امتلاك العبيد الأفارقة لدى الجنوبيين ميزة تنافسية كبيرة لصالح اقتصاديات الزراعة في هذه الولايات لتوفر العمالة الكثيفة القوية منعدمة التكاليف مقارنة بما كان يجب على الشماليين تحمله من تكلفة أجور للمزارعين شكلت عبئاً وعائقاً شديداً على الإستثمارات الزراعية الشمالية. وغذت مع الوقت مشاعر العداء لنظام الرق في الولايات الجنوبية لدى الشماليين.

هذا التنافس الشمالي الجنوبي انعكس أيضاً في ضم ولايات جديدة فقد حرص الجانبان مع توسع أمريكا وضمها لولايات جديده على تعزيز موقفهما بمحاولة ضم تلك الولايات إلى مجموعته (الولايات الحرة وولايات العبيد) مما حافظ على التوازن بينهما وأجج الاستقطاب في ذات الوقت.

كما أن هذا الضغط على الزراعة الشمالية دفع المستثمرين الشماليين لتوجيه أموالهم في اتجاه الاستثمار بالصناعة والاعتماد عليها حينما كان أقرانهم الجنوبيون يعيشون حياة رغدة من عوائد استثماراتهم الزراعية منخفضة التكاليف. ومع مرور الوقت تحولت الولايات الشمالية إلى مجتمعات صناعية وبقيت تلك الجنوبية مجتمعات أقرب إلى الزراعية. ونعلم جميعاً اليوم من قراءة التاريخ كيف أن المجتمعات الصناعية أغنى وأكثر تطوراً وقوة ونمواً من تلك الزراعية. وهو ما كان محفزاً اجتماعياً نحو صعود النموذج الشمالي ليصبح أكثر قبولاً عن ذلك الجنوبي، وهو ما كان وتغيرت توجهات الأغلبية.

رفض قرارات الأغلبية والحرب الأهلية الأمريكية.

مع مرور الوقت ونتيجة لما سبق نما اتجاه سياسي كبير في الولايات المتحدة يهدف إلى إنهاء الرق وعبر هذا الاتجاه عن نفسه عام 1854 بتأسيس الحزب الجمهوري الأمريكي، وكان أن ترشح لانتخابات الرئاسة الأمريكية عام 1860 أحد رجالات هذا الحزب ويدعى إبراهام لينكون.

ولكن السياسيين في الجنوب كانوا قد قرروا مسبقاً عدم الانصياع للديمقراطية أو القبول بنتائجها وأضمروا الانفصال عن الولايات المتحدة الأمريكية حال فوز الجمهوريين بالرئاسة وهو ما كان وانفصلت ساوث كارولينا ثم تبعتها عشر ولايات أخرى لتشكل "الولايات الكونفيدرالية الأمريكية" وهي الدولة التي أضحت الطرف الثاني أمام الولايات المتحدة في الحرب الأهلية الأمريكية. كان الصدام هو النتيجة الحتمية لرفض نتائج الديمقراطية ورأي الأغلبية.

(للمفارقة التاريخية فإن معارضي الرق هم من قبلوا بنتيجة الديمقراطية حين كانت الأغلبية مع إبقائه وأن أنصار العبودية هم من أنقلبوا على نتائجها حين تغيرت توجهات الأغلبية وتعارضت مع مصالحهم وأهوائهم)

وبعد ما يزيد على 600 ألف قتيل وعدد ضخم من الجرحى وحرق آلاف المنازل انتهت الحرب إلى انتصار الشمال (الذي كان قد أضحى أقوى للسياق التاريخي السابق) وإخضاع ولايات الجنوب وتم إنهاء العبودية عام 1865 بالتعديل الثالث عشر على الدستور الأمريكي.

الكونجرس والدستور

الدستور الأمريكي أحد الدساتير القصيرة الغير مفصلة (كتب الدستور كله على وجهي ورقة كبيرة واحدة) ولذلك تعد التعديلات المضافة إليه هي أهم جزء فيه (النظام الدستوري الأمريكي يقضي بإضافة أية تعديلات جديدة على الدستور دون حذف أو تعديل النص القديم)

والجهة صاحبة الحق الأصيل في إقرار أية تعديلات هي الكونجرس بغرفتيه،  ويتطلب تمرير التعديل من الكونجرس الموافقة عليه بأغلبية الثلثين. ثم ليصبح التعديل نافذاً يجب التصديق عليه من ثلاثة أرباع الولايات الأمريكية. ويحدد الكونجرس الاتحادي طريقة تصديق الولايات بأحد اختيارين، إما موافقة المجلس التشريعي للولاية أو التصويت العام للمواطنين داخل الولاية، ولم تستخدم الطريقة الثانية سوى مرة واحدة في التعديل رقم 21 عام 1933 من أصل 27 تعديلا على الدستور.

وعبر التاريخ الأمريكي تقدم للكونجرس نحو عشرة آلاف اقتراح بتعديل دستوري (نعم رأى عشرة ألاف أمريكي ما يستحق التعديل بدستور بلاده). لكن لم يتخط منها كل الخطوات اللازمة لإقرار التعديل سوى 27 تعديل فقط كان منها عشرة تعديلات دفعة واحدة وافقت عليها الولايات من أصل 12 تعديلا أرسلها لها الكونجرس عرفت ب "وثيقة الحقوق"  وقد تم التصديق عليها بعد اربعة سنوات فقط من الدستور عام 1791. (حدثني عن أن البرلمانات لا تضع الدساتير أو أن الدساتير دائمة مرة أخرى)

ماذا إذن؟

 كان هذا مجهودي في إطار هدم الأساطير  المتعلقة بالدساتير مرة أخرى بمناسبة حملات النصب العاتية التي نسمع لها ونقرأها بمناسبة تشكيل الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور. وحتى أكون واضحاً، فإنني أكتب هذا لأن أغلب الانتقادات والمسلمات البارزة والمبرزة في وسائل الإعلام وعلى ألسنة الملقبين ب "فقهاء الدستور" محض نصب وأساطير.

والحقيقة أن الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها الأغلبية البرلمانية في تشكيل الجمعية التأسيسية (ونتج عنها كل الخطايا اللاحقة) كان رضوخها للضغوط المشتركة من الحكام العسكريين والخصوم السياسيين في الاجتماع الشهير بين رئيس الأركان ورؤساء الأحزاب وقبول كتابة الدستور قبل انتخابات الرئاسة (بالمخالفة لترتيبات الاستفتاء) وهو ما نتج عنه أولاً تأجيل تسليم السلطة لعام كامل عقب انتخاب البرلمان، ثم لما نجحت الضغوط الشعبية عقب مليونية 18 نوفمبر وأحداث محمد محمود في تقديم هذا الموعد إلى آخر يونيو جاء ذلك على حساب الوقت المتاح لتشكيل الجمعية التأسيسية وكتابة الدستور. وعليه قرر الاجتماع المشترك لغرفتي البرلمان في بداية مارس أن تستغرق عملية تشكيل الجمعية التأسيسية ما لا يزيد عن ثلاثة أسابيع من أصل ستة أشهر متاحة (ولم يعترض وقتها أحد أو ينسحب بل فعلوا ذلك عندما رأوا أن حصتهم ليست كما طمعوا). وهذا الضغط في الجدول نتج عنة التسرع في الاختيار وبالتالي فقدان الشفافية في توضيح ومناقشة معايير الاختيار وفقدان أهم آليات التوافق (وهي النقاش العام وحق الجميع في إبداء الرأي) مما أدى إلى خروج التشكيل دون وضوح في المعايير وبالتالي دون ثقة في أنه أفضل تشكيل ممكن. وهي الخطيئة التي أتمنى أن تستغل الأغلبية حكم القضاء الإداري (غير المختص وغير المعني بالأمر بالمناسبة) بوقف تنفيذ الجمعية في تداركها سياسياً عبر توسعة المدى الزمني المتاح لتشكيل الجمعية إلى مهلته الأصلية (حتى بداية سبتمبر) لاستنفاذ كل الوقت والجهد الممكن بذله في التوافق على التشكيل والالتزام بخارطة طريق الاستفتاء وتحقيق المطلب الثوري بألا يأتي الدستور تحت حكم العسكر.

ولكن، من أنا لكي أدعوك أن تقرأ ما أكتب أو تفكر فيما يعرض عليك من أفكار أو أن تتدبر في التاريخ يا صديقي؟ لنلق كل هذا الكلام وراء ظهورنا ونردد ما يلقننا إياه أسيادنا الذين في الإعلام:
الدساتير لا تكتب بالأغلبية، الدساتير دائمة وليست متغيرة، البرلمانات لا تكتب الدستور، أنت مو أنت وأنت جوعان.

هذا، وعلى الله قصد السبيل
عبدالرحمن عبدالودود، مدينة الشيخ زايد، 25 أبريل، العام الثاني للثورة

هناك تعليق واحد:

  1. مجهود و اضح يا عبدالرحمن ما شاء الله... استمتعت بقراءة المقال كله

    ردحذف